للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَمَعْنَى فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ صَارَ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْخَسَارَةِ هُنَا خَسَارَةَ الْآخِرَةِ، أَيْ صَارَ بِذَلِكَ الْقَتْلِ مِمَّنْ خَسِرَ الْآخِرَةَ، وَيَجُوزُ إِبْقَاءُ (أَصْبَحَ) عَلَى ظَاهِرِهَا، أَيْ غَدَا خَاسِرًا فِي الدُّنْيَا، وَالْمُرَادُ بِالْخَسَارَةِ مَا يَبْدُو عَلَى الْجَانِي مِنَ الِاضْطِرَابِ وَسُوءِ الْحَالَةِ وَخَيْبَةِ الرَّجَاءِ، فَتُفِيدُ أَنَّ الْقَتْلَ وَقَعَ فِي الصّباح.

[٣١]

[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : آيَة ٣١]

فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يَا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١)

الْبَعْثُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِلْهَامِ بِالطَّيَرَانِ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، أَيْ فَأَلْهَمَ اللَّهُ غُرَابًا يَنْزِلُ بِحَيْثُ يَرَاهُ قَابِيلُ. وَكَأَنَّ اخْتِيَارَ الْغُرَابِ لِهَذَا الْعَمَلِ إِمَّا لِأَنَّ الدَّفْنَ حِيلَةٌ فِي الْغِرْبَانِ مِنْ قَبْلُ، وَإِمَّا لِأَنَّ اللَّهَ اخْتَارَهُ لِذَلِكَ لِمُنَاسَبَةِ مَا يَعْتَرِي النَّاظِرَ إِلَى سَوَادِ لَوْنِهِ مِنَ الِانْقِبَاضِ بِمَا لِلْأَسِيفِ الْخَاسِرِ مِنِ انْقِبَاضِ النَّفْسِ. وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي تَشَاؤُمِ الْعَرَبِ بِالْغُرَابِ، فَقَالُوا: غُرَابُ الْبَيْنِ.

وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي «يُرِيهِ» إِنْ كَانَ عَائِدًا إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فَالتَّعْلِيلُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ اللَّامِ وَإِسْنَادِ الْإِرَادَةِ حَقِيقَتَانِ، وَإِنْ كَانَ عَائِدًا إِلَى الْغُرَابِ فَاللَّامُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى فَاءِ التَّفْرِيعِ، وَإِسْنَادُ الْإِرَادَةِ إِلَى الْغُرَابِ مَجَازٌ، لِأَنَّهُ سَبَبُ الرُّؤْيَةِ فَكَأَنَّهُ مُرِيءٌ. وكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُجَرَّدَةً عَنِ الِاسْتِفْهَامِ مُرَادًا مِنْهَا الْكَيْفِيَّةُ، أَوْ لِلِاسْتِفْهَامِ، وَالْمَعْنَى: لِيُرِيَهُ جَوَابَ كَيْفَ يُوَارِي.

وَالسَّوْأَةُ: مَا تَسُوءُ رُؤْيَتُهُ، وَهِيَ هُنَا تَغَيُّرُ رَائِحَةِ الْقَتِيلِ وَتَقَطُّعُ جِسْمِهِ.

وَكلمَة يَا وَيْلَتى مِنْ صِيَغِ الِاسْتِغَاثَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي التَّعَجُّبِ، وَأَصْلُهُ يَا لَوَيْلَتِي، فَعُوِّضَتِ الْأَلِفُ عَنْ لَامِ الِاسْتِغَاثَةِ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: يَا عَجَبَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الْأَلِفُ عِوَضًا عَنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَهِيَ لُغَةٌ، وَيَكُونَ النِّدَاءُ مَجَازًا بِتَنْزِيلِ الْوَيْلَةِ مَنْزِلَةَ مَا يُنَادَى، كَقَوْلِه: يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر: ٥٦] .