وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَعَجَزْتُ إِنْكَارِيٌّ.
وَهَذَا الْمَشْهَدُ الْعَظِيمُ هُوَ مَشْهَدُ أَوَّلِ حَضَارَةٍ فِي الْبَشَرِ، وَهِيَ مِنْ قَبِيلِ طَلَبِ سَتْرِ الْمَشَاهِدِ الْمَكْرُوهَةِ. وَهُوَ أَيْضًا مَشْهَدُ أَوَّلِ عِلْمٍ اكْتَسَبَهُ الْبَشَرُ بِالتَّقْلِيدِ وَبِالتَّجْرِبَةِ، وَهُوَ أَيْضًا مَشْهَدُ أَوَّلِ مَظَاهِرِ تَلَقِّي الْبَشَرِ مَعَارِفَهُ مِنْ عَوَالِمَ أَضْعَفَ مِنْهُ كَمَا تَشَبَّهَ النَّاسُ بِالْحَيَوَانِ فِي الزِّينَةِ، فَلَبِسُوا الْجُلُودَ الْحَسَنَةَ الْمُلَوَّنَةَ وَتَكَلَّلُوا بِالرِّيشِ الْمُلَوَّنِ وَبِالزُّهُورِ وَالْحِجَارَةِ الْكَرِيمَةِ، فَكَمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ عِبْرَةٍ لِلتَّارِيخِ وَالدِّينِ وَالْخُلُقِ.
فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ.
الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ [الْمَائِدَة: ٣٠] . وَمَعْنَى مِنَ النَّادِمِينَ أَصْبَحَ نَادِمًا أَشَدَّ نَدَامَةٍ، لِأَنَّ مِنَ النَّادِمِينَ أَدَلُّ عَلَى تَمَكُّنِ النَّدَامَةِ مِنْ نَفْسِهِ، مِنْ أَنْ يُقَالَ «نَادِمًا» . كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ [الْبَقَرَة: ٣٤] وَقَوْلِهِ: فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٥] .
وَالنَّدَمُ أَسَفُ الْفَاعِلِ عَلَى فِعْلٍ صَدَرَ مِنْهُ لَمْ يَتَفَطَّنْ لِمَا فِيهِ عَلَيْهِ مِنْ مَضَرَّةٍ قَالَ تَعَالَى: أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى مَا فَعَلْتُمْ نادِمِينَ [الحجرات: ٦] ، أَيْ نَدِمَ عَلَى مَا اقْتَرَفَ مِنْ قَتْلِ أَخِيهِ إِذْ رَأَى الْغُرَابَ يَحْتَفِلُ بِإِكْرَامِ أَخِيهِ الْمَيِّتِ وَرَأى نَفسه يجترىء عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ، وَمَا إِسْرَاعُهُ إِلَى تَقْلِيدِ الْغُرَابِ فِي دَفْنِ أَخِيهِ إِلَّا مَبْدَأُ النَّدَامَةِ وَحَبُّ الْكَرَامَةِ لِأَخِيهِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا النَّدَمَ لَمْ يَكُنْ نَاشِئًا عَنْ خَوْفِ عَذَابِ اللَّهِ وَلَا قَصْدِ تَوْبَةٍ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَنْفَعْهُ.
فَجَاءَ فِي الصَّحِيحِ «مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ»
. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا لِمَنْ قَالُوا: إِنَّ الْقَاتِلَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ [٩٣] .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute