للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

آدَمَ كُلَّهُمُ اسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ الْأُخْرَوِيَّ بِخَطِيئَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ، فَجَاءَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مُخَلِّصًا وَشَافِعًا وَعَرَّضَ نَفْسَهُ لِلصَّلْبِ لِيُكَفِّرَ عَنِ الْبَشَرِ خَطِيئَتَهُمُ الْمَوْرُوثَةَ، وَهَذَا يُلْزِمُهُمُ الِاعْتِرَافَ بِأَنَّ الْعَذَابَ كَانَ مَكْتُوبًا عَلَى الْجَمِيعِ لَوْلَا كَفَّارَةُ عِيسَى فَحَصَلَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِاعْتِقَادِهِمْ بِهِ بَلْهَ اعْتِقَادِنَا.

ثُمَّ أُخِذَتِ النَّتِيجَةُ مِنَ الْبُرْهَانِ بِقَوْلِهِ: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ أَيْ يَنَالُكُمْ مَا يَنَالُ سَائِرَ الْبَشَرِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ أَيْضًا بِأَنَّ الْمَسِيحَ بَشَرٌ، لِأَنَّهُ نَالَهُ مَا يَنَالُ الْبَشَرَ مِنَ الْأَعْرَاضِ وَالْخَوْفِ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ نَالَهُ الصَّلْبُ وَالْقَتْلُ.

وَجُمْلَةُ قَوْلِهِ: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ كَالِاحْتِرَاسِ، لِأَنَّهُ لَمَّا رَتَّبَ عَلَى نَوَالِ الْعَذَابِ إِيَّاهُمْ أَنَّهُمْ بَشَرٌ دَفَعَ تَوَهُّمَ النَّصَارَى أَنَّ الْبَشَرِيَّةَ مُقْتَضِيَةٌ اسْتِحْقَاقَ الْعَذَابِ بِوِرَاثَةِ تَبِعَةِ خَطِيئَةِ آدَمَ فَقَالَ: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ، أَيْ مِنَ الْبَشَرِ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ.

[١٩]

[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : آيَة ١٩]

يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩)

كَرَّرَ اللَّهُ مَوْعِظَتَهُمْ وَدَعْوَتَهُمْ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُمْ فَسَادَ عَقَائِدِهِمْ وَغُرُورَ أَنْفُسِهِمْ بَيَانًا لَا يَدَعُ لِلْمُنْصِفِ مُتَمَسَّكًا بِتِلْكَ الضَّلَالَاتِ، كَمَا وَعَظَهُمْ وَدَعَاهُمْ آنِفًا بِمِثْلِ هَذَا عَقِبَ بَيَانِ نَقْضِهِمُ الْمَوَاثِيقَ. فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ تَكْرِيرٌ لِمَوْقِعِ قَوْلِهِ: يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ [الْمَائِدَة: ١٥] الْآيَاتِ، إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَا بِوَصْفِ مَجِيئِهِ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ لِيُذَكِّرَهُمْ بِأَنَّ كُتُبَهُمْ مُصَرِّحَةٌ بِمَجِيءِ رَسُولٍ عَقِبَ رُسُلِهِمْ، وَلِيُرِيَهُمْ أَنَّ مَجِيئَهُ لَمْ يَكُنْ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ إِذْ كَانُوا يَجِيئُونَ عَلَى فِتَرٍ بَيْنَهُمْ. وَذُكِرَ الرَّسُولُ هُنَالِكَ بِوَصْفِ تَبْيِينِهِ مَا يُخْفُونَهُ مِنَ الْكِتَابِ لِأَنَّ