لِلرِّسَالَةِ أَوِ اكْتِفَاءً
بِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ وَاقِعٌ لَا يُسْتَطَاعُ إِنْكَارُهُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا، وَأَمَّا حِكْمَةُ الْفَصْلِ بِالْفِتَرِ فَشَيْءٌ فَوْقَ مَرَاتِبِ عُقُولِهِمْ. فَأَشَارَ بِقَوْلِهِ بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ إِلَى بَيَانِ حِكْمَةِ الْإِرْسَالِ عَقِبَ الْفَتْرَةِ. وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى إِلَى الْأُمَمِ الَّتِي اسْتَأْصَلَهَا اللَّهُ لِتَكْذِيبِهَا رُسُلَ اللَّهِ.
فَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ لِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِينَ لِوُقُوعِ ذَلِكَ حَتَّى يُحْتَاجَ مَعَهُمْ إِلَى التَّأْكِيدِ بِالْقَسَمِ، فَمَوْقِعُ التَّأْكِيدِ هُوَ قَوْلُهُ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى.
والْكِتابَ: التَّوْرَاةُ الَّتِي خَاطَبَ اللَّهُ بِهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْبَصَائِرُ: جَمْعُ بَصِيرَةٍ، وَهِيَ إِدْرَاكُ الْعَقْلِ. سُمِّيَ بَصِيرَةً اشْتِقَاقًا مِنْ بَصَرِ الْعَيْنِ، وَجُعِلَ الْكِتَابُ بَصَائِرَ بِاعْتِبَارِ عِدَّةِ دَلَائِلِهِ وَكَثْرَةِ بَيِّنَاتِهِ، كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ [الْإِسْرَاء: ١٠٢] .
والْقُرُونَ الْأُولى: قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمُ لُوطٍ. وَالْقَرْنُ: الْأُمَّةُ، قَالَ تَعَالَى كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ [الْأَنْعَام: ٦] .
وَفِي الْحَدِيثِ «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي»
. وَالنَّاسُ هُمُ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مُوسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَلِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَهْتَدِيَ بِهَدْيِهِ مِثْلِ الَّذِينَ تَهَوَّدُوا مِنْ عَرَبِ الْيَمَنِ، وهُدىً وَرَحْمَةً لَهُمْ، وَلِمَنْ يَقْتَبِسُ مِنْهُمْ قَالَ تَعَالَى إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [الْمَائِدَة: ٤٤] . وَمِنْ جُمْلَةِ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ تَحْذِيرُهَا مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ.
وَضَمِيرُ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ عَائِدٌ إِلَى النَّاسِ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِالتَّوْرَاةِ، أَيْ فَكَذَلِكَ إِرْسَالُ مُحَمَّدٍ لَكُمْ هُدًى وَرَحْمَةٌ لَعَلَّكُمْ تتذكرون.
[٤٤]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ٤٤]
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤)
لَمَّا بَطَلَتْ شُبْهَتُهُمُ الَّتِي حَاوَلُوا بِهَا إِحَالَةَ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُقِلَ الْكَلَامُ إِلَى إِثْبَاتِ رِسَالَتِهِ بِالْحُجَّةِ الدَّامِغَةِ وَذَلِكَ بِمَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ رِسَالَةِ