فَيَسْرِقُ، وَإِنْ عَزَمَ عَلَيْهِ وَرَجَعَ عَنْ فِعْلِهِ اخْتِيَارًا لِغَيْرِ مَانِعٍ مَنَعَهُ، فَلَا خِلَافَ فِي عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ وَهُوَ مَوْرِدُ
حَدِيثِ «مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ»
وَإِنْ رَجَعَ لِمَانِعٍ قَهَرَهُ عَلَى الرُّجُوعِ فَفِي الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ قَوْلَانِ. أَيْ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَى يُجَازِيكُمْ وَأَنَّهُ مُجْمَلٌ تُبَيِّنُهُ مَوَارِدُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي أَدِلَّةٍ شَرْعِيَّةٍ كَثِيرَةٍ، وَإِنَّ مَنْ سَمَّى ذَلِكَ نَسْخًا مِنَ السَّلَفِ فَإِنَّمَا جَرَى عَلَى تَسْمِيَةٍ سَبَقَتْ ضَبْطَ الْمُصْطَلَحَاتِ الْأُصُولِيَّةِ فَأَطْلَقَ النَّسْخَ عَلَى مَعْنَى الْبَيَانِ وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي عِبَارَاتِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ دَلَائِلُ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، هِيَ الْبَيَانُ لِمَنْ يَشَاء فِي قَوْله تَعَالَى: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ.
وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نُسِخَتْ بِالَّتِي بَعْدَهَا» أَيْ بِقَوْلِهِ:
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الْبَقَرَة: ٢٨٦] كَمَا سَيَأْتِي هُنَالِكَ.
وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمَشِيئَةَ هُنَا مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى أَحْوَال المبدى والمحفى، كَمَا هُوَ بَيِّنٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَيَغْفِرْ وَيُعَذِّبْ بِالْجَزْمِ، عَطْفًا عَلَى يُحَاسِبْكُمْ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ: بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ بِتَقْدِيرِ فَهُوَ يغْفر، وهم وَجْهَانِ فَصِيحَانِ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ وَلَمْ يُقْرَأْ بِهِ إِلَّا فِي الشَّاذِّ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تَذْيِيلٌ لِمَا دَلَّ عَلَى عُمُومِ الْعِلْمِ، بِمَا يَدُلُّ عَلَى عُمُوم الْقُدْرَة.
[٢٨٥]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢٨٥]
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥)
قَالَ الزَّجَّاجُ: «لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَحْكَامًا كَثِيرَةً، وَقِصَصًا، خَتَمَهَا بِقَوْلِهِ:
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ تَعْظِيمًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتْبَاعِهِ، وَتَأْكِيدًا وَفَذْلَكَةً لِجَمِيعِ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ مِنْ قَبْلُ» . يَعْنِي: أَنَّ هَذَا انْتِقَالٌ مِنَ الْمَوَاعِظِ، وَالْإِرْشَادِ،