للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَيْ عَدَمُ امْتِثَالِهَا لِلرُّقْيَا. وَالْمَعْنَى: إِنَّهُمْ آمَنُوا، وَاطْمَأَنُّوا وَامْتَثَلُوا، وَإِنَّمَا جِيءَ بِلَفْظِ الْمَاضِي، دُونَ الْمُضَارِعِ، لِيَدُلُّوا عَلَى رُسُوخِ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا إِنْشَاءَ الْقَبُولِ وَالرِّضَا، وَصِيَغُ الْعُقُودِ وَنَحْوِهَا تَقَعُ بِلَفْظِ الْمَاضِي نَحْوَ بِعْتُ.

وَغُفْرَانَكَ نُصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ: أَيِ اغْفِرْ غُفْرَانَكَ، فَهُوَ بَدَلٌ مِنْ فِعْلِهِ.

والمصير يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فَيَكُونُ اعْتِرَافًا بِالْبَعْثِ، وَجُعِلَ مُنْتَهِيًا إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ مُنْتَهٍ إِلَى يَوْمٍ، أَوْ عَالَمٍ، تَظْهَرُ فِيهِ قُدْرَةُ اللَّهِ بِالضَّرُورَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَجَازٌ عَنْ تَمَامِ الِامْتِثَالِ وَالْإِيمَانِ. كَأَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ آبِقِينَ، ثُمَّ صَارُوا إِلَى اللَّهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات: ٥٠] . وَجَعْلُ الْمَصِيرِ إِلَى اللَّهِ تَمْثِيلًا لِلْمَصِيرِ إِلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ: كَقَوْلِهِ:

وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ [النُّور: ٣٩] وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ: أَيِ الْمَصِيرُ إِلَيْكَ لَا إِلَى غَيْرِكَ، وَهُوَ قصر حَقِيقِيّ قصدُوا بِهِ لَازِمُ فَائِدَتِهِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ عَالِمُونَ بِأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهِ، وَلَا يَصِيرُونَ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ يَعْبُدُهُمْ أَهْلُ الضَّلَالِ.

[٢٨٦]

[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢٨٦]

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦)

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها مَا كَسَبَتْ.

الْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَيكون اعتراضا ين الْجُمَلِ الْمَحْكِيَّةِ بِالْقَوْلِ، وَفَائِدَتُهُ إِظْهَارُ ثَمَرَةِ الْإِيمَانِ، وَالتَّسْلِيمِ، وَالطَّاعَةِ، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الدِّينِ التَّكْلِيفَ بِمَا فِيهِ مَشَقَّةٌ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ تَبْشِيرٌ بِاسْتِجَابَةِ دَعْوَتِهِمُ الْمُلَقَّنَةِ، أَوِ الَّتِي أُلْهِمُوهَا: وَهِيَ رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا- إِلَى قَوْلِهِ- مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ قَبْلَ أَنْ يَحْكِيَ دَعَوَاتِهِمْ تِلْكَ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، كَأَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا أَيْ عَلِمْنَا تَأْوِيلَ قَوْلِ رَبِّنَا: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ [الْبَقَرَة: ٢٨٤] بِأَنَّهُ يَدْخُلُهَا الْمُؤَاخَذَةُ بِمَا فِي الْوُسْعِ، مِمَّا أُبْدِيَ وَمَا أُخْفِيَ، وَهُوَ مَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ فِي الْخَارِجِ اخْتِيَارًا، أَوْ يُعْقَدُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ، وَيَطَمْئِنُّ بِهِ، إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: لَها مَا كَسَبَتْ إِلَخ يُبْعِدُ هَذَا إِذْ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِإِثْبَاتِ ذَلِكَ.