[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٤٦]
مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا.
ومِنَ تَبْعِيضِيَّةٌ، وَهِيَ خَبَرٌ لِمُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ صِفَتُهُ وَهِيَ جُمْلَةُ يُحَرِّفُونَ وَالتَّقْدِيرُ: قَوْمٌ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ.
وَحَذْفُ الْمُبْتَدَإِ فِي مِثْلِ هَذَا شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ اجْتِزَاءً بِالصِّفَةِ عَنِ الْمَوْصُوفِ وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمُبْتَدَأُ مَوْصُوفًا بِجُمْلَةٍ أَوْ ظَرْفٍ، وَكَانَ بَعْضَ اسْمٍ مَجْرُورٍ بِحَرْفِ مِنَ، وَذَلِكَ الِاسْمُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُبْتَدَإِ. وَمِنْ كَلِمَاتِ الْعَرَبِ الْمَأْثُورَةِ قَوْلُهُمْ: «مِنَّا ظَعَنَ وَمِنَّا أَقَامَ» أَيْ مِنَّا فَرِيقٌ ظَعَنَ وَمِنَّا فَرِيقٌ أَقَامَ. وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
فَظَلُّوا وَمِنْهُمْ دَمْعُهُ غَالِبٌ لَهُ ... وَآخَرُ يَذْرِي دَمْعَةَ الْعَيْنِ بِالْهَمْلِ
أَيْ وَمِنْهُمْ فَرِيقٌ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الْعَطْفِ وَآخَرُ. وَقَوْلُ تَمِيم بن مقيل:
وَمَا الدَّهْرُ إِلَّا تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا ... أَمُوتُ وَأُخْرَى أَبْتَغِي الْعَيْشَ أَكْدَحُ
وَقَدْ دَلَّ ضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ يُحَرِّفُونَ أَنَّ هَذَا صَنِيعُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ مِنَ الْيَهُودِ، وَلَعَلَّ قَائِلَ هَذَا يَعْنِي أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ هَؤُلَاءِ الْفَرِيقِ، إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَاحِدًا وَيُؤْتَى بِضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ، وَلَيْسَ الْمَقَامُ مَقَامَ إِخْفَاءٍ حَتَّى يَكُونَ عَلَى حَدِّ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ»
إِلَخْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الَّذِينَ هادُوا صِفَةً لِلَّذِينِ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ، وَتَكُونَ مِنَ بَيَانِيَّةً أَيْ هُمُ الَّذِينَ هَادُوا، فَتَكُونَ جُمْلَةُ يُحَرِّفُونَ حَالًا مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ هادُوا. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَقَدْ أُثْبِتَتْ لَهُمْ أَوْصَافُ التَّحْرِيفِ وَالضَّلَالَةِ وَمَحَبَّةِ ضَلَالِ الْمُسْلِمِينَ.