للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالتَّحْرِيفُ: الْمَيْلُ بِالشَّيْءِ إِلَى الْحَرْفِ وَهُوَ جَانِبُ الشَّيْءِ وَحَافَّتُهُ، وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [١٣] ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمَيْلِ عَنْ سَوَاءِ الْمَعْنَى وَصَرِيحِهِ إِلَى التَّأْوِيلِ الْبَاطِلِ، كَمَا يُقَالُ: تَنَكَّبَ عَنِ الصِّرَاطِ، وَعَنِ الطَّرِيقِ، إِذَا أَخْطَأَ الصَّوَابَ وَصَارَ إِلَى سُوءِ الْفَهْمِ أَوِ التَّضْلِيلِ، فَهُوَ عَلَى هَذَا تَحْرِيفُ مُرَادِ اللَّهِ فِي التَّوْرَاةِ إِلَى تَأْوِيلَاتٍ بَاطِلَةٍ، كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ فِي تَحْرِيفِ مَعَانِي الْقُرْآنِ

بِالتَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يكون التحريف مشقّا مِنَ الْحَرْفِ وَهُوَ الْكَلِمَةُ وَالْكِتَابَةُ، فَيَكُونُ مُرَادًا بِهِ تَغْيِيرُ كَلِمَاتِ التَّوْرَاةِ وَتَبْدِيلُهَا بِكَلِمَاتٍ أُخْرَى لِتُوَافِقَ أَهْوَاءَ أَهْلِ الشَّهَوَاتِ فِي تَأْيِيدِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ فَاسِدِ الْأَعْمَالِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ قَدِ ارْتَكَبَهُ الْيَهُودُ فِي كِتَابِهِمْ. وَمَا يُنْقَلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ التَّحْرِيفَ فَسَادُ التَّأْوِيلِ وَلَا يَعْمِدُ قَوْمٌ عَلَى تَغْيِيرِ كِتَابِهِمْ، نَاظِرٌ إِلَى غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ، فَعَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ يَكُونُ اسْتِعْمَالُ عَنْ فِي قَوْلِهِ:

عَنْ مَواضِعِهِ مَجَازًا، وَلَا مُجَاوَزَةَ وَلَا مَوَاضِعَ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ حَقِيقَةً إِذِ التَّحْرِيفُ حِينَئِذٍ نَقْلٌ وَإِزَالَةٌ.

وَقَوْلُهُ: وَيَقُولُونَ عَطْفٌ عَلَى يُحَرِّفُونَ ذُكِرَ سُوءُ أَفْعَالِهِمْ وَسُوء أَقْوَالهم، وَهِي أَقْوَالِهِمُ الَّتِي يُوَاجِهُونَ بهَا الرَّسُول- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام-: يَقُولُونَ سَمِعْنَا دَعْوَتَكَ وَعَصَيْنَاكَ، وَذَلِكَ إِظْهَارٌ لِتَمَسُّكِهِمْ بِدِينِهِمْ لِيَزُولَ طَمَعُ الرَّسُولِ فِي إِيمَانِهِمْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَرَوْا فِي قَوْلِهِمْ هَذَا أَذًى لِلرَّسُولِ فَأَعْقَبُوهُ بِقَوْلِهِمْ لَهُ: وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ إِظْهَارٌ لِلتَّأَدُّبِ مَعَهُ.

وَمَعْنَى اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مُرَاجَعَتِهِ فِي أَمْرِ الْإِسْلَامِ:

اسْمَعْ مِنَّا، وَيُعَقِّبُونَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: غَيْرَ مُسْمَعٍ يُوهِمُونَ أَنَّهُمْ قَصَدُوا الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ مِنْ قَوْلِهِمْ: غَيْرَ مُسْمَعٍ، أَيْ غَيْرَ مَأْمُورٍ بِأَنْ تَسْمَعَ، فِي مَعْنَى قَوْلِ الْعَرَبِ: (افْعَلْ غَيْرَ مَأْمُورٍ) .

وَقِيلَ مَعْنَاهُ: غَيْرَ مُسْمَعٍ مَكْرُوهًا، فَلَعَلَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَقُولُونَ: أَسْمَعَهُ بِمَعْنَى سَبَّهُ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ كَانَتْ مَعْرُوفَةَ الْإِطْلَاقِ بَيْنَ الْعَرَبِ فِي مَعْنَى الْكَرَامَةِ وَالتَّلَطُّفِ.

إِطْلَاقًا مُتَعَارَفًا، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا قَالُوهَا لِلرَّسُولِ أَرَادُوا بِهَا مَعْنًى آخَرَ انْتَحَلُوهُ لَهَا مِنْ شَيْءٍ يَسْمَحُ بِهِ تَرْكِيبُهَا الْوَضْعِيُّ، أَيْ أَنْ لَا يَسْمَعَ صَوْتًا من متكلّم. لِأَن يَصِيرَ أَصَمَّ، أَوْ