[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ١١٥]
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ [التَّوْبَة: ١١٤] لِاعْتِذَارٍ عَنِ النَّبِيءِ وَإِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِي اسْتِغْفَارِهِمَا لِمَنِ اسْتَغْفَرَا لَهُمَا مِنْ أُولِي الْقُرْبَى كَأَبِي طَالِبٍ وَآزَرَ وَمِنَ الْأُمَّةِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بن سَلُولَ بِأَنَّ فِعْلَهُمَا ذَلِكَ مَا كَانَ إِلَّا رَجَاءً مِنْهُمَا هدى من استغفرا لَهُ، وَإِعَانَةً لَهُ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمَا الثَّابِتُ عَلَى كُفْرِهِ إِمَّا بِمَوْتِهِ عَلَيْهِ أَوْ بِالْيَأْسِ مِنْ إِيمَانِهِ تَرْكَا الِاسْتِغْفَارَ لَهُ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بَعْدَ أَنْ أَبْلَغَا الرِّسَالَةَ وَنَصَحَا لِمَنِ اسْتَغْفَرَا لَهُ. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى مَهَّدَ اللَّهُ لَهُمَا الِاعْتِذَارَ مِنْ قَبْلُ بِقَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [التَّوْبَة: ١١٣] وَقَوْلِهِ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التَّوْبَة: ١١٤] . وَفِي ذَلِكَ مَعْذِرَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَغْفِرِينَ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ أُولِي قَرَابَتِهِمْ قَبْلَ هَذَا النَّهْيِ. فَهَذَا مِنْ بَابِ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَة: ٤٣] .
وَفِيهِ تَسْجِيلٌ أَيْضًا لِكَوْنِ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ أَحْرِيَاءَ بِقَطْعِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ لِأَنَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مَا قَطَعُوهُ عَنْهُمْ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَمْهَلُوهُمْ وَوَعَدُوهُمْ وَبَيَّنُوا لَهُمْ وَأَعَانُوهُمْ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ فَمَا زَادَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا طُغْيَانًا.
وَمَعْنَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً أَنْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ وَعَادَةِ جَلَالِهِ أَنْ يَكْتُبَ الضَّلَالَ لِقَوْمٍ بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى الْحَقِّ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمُ الْأَشْيَاءَ الَّتِي يُرِيدُ مِنْهُمْ أَنْ يَتَّقُوهَا، أَيْ يَتَجَنَّبُوهَا. فَهُنَالِكَ يُبَلِّغُ رُسُلَهُ أَنَّ أُولَئِكَ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ حَتَّى يَتْرُكُوا طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ كَمَا قَالَ لِنُوحٍ- عَلَيْهِ السّلام-: فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [هود: ٤٦] وَلَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ تَعَالَى أَنْ يَكْتُبَ الضَّلَالَ لِقَوْمٍ بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ لِلْإِيمَانِ وَاهْتَدَوْا إِلَيْهِ لِعَمَلٍ عَمِلُوهُ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِذَلِكَ الْعَمَلِ.
ثُمَّ إِنَّ لَفْظَ الْآيَةِ صَالِحٌ لِإِفَادَةِ مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا الْمُسْلِمِينَ بِاسْتِغْفَارِهِمْ لِمَنِ اسْتَغْفَرُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ وُرُودِ النَّهْيِ وَظُهُورِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute