للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[٣٠، ٣١]

[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٣٠ الى ٣١]

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها مَا يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (٣١)

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً.

لَمَّا افْتُتِحَتْ صِفَةُ سَيِّئَاتِ الْكَافِرِينَ وَعَوَاقِبِهَا بِأَنَّهُمْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ [سُورَة النَّحْل: ٢٤] قَالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [سُورَة النَّحْل: ٢٤] ، جَاءَتْ هُنَا مُقَابَلَةُ حَالِهِمْ بِحَالِ حَسَنَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَحُسْنِ عَوَاقِبِهَا، فَافْتُتِحَ ذَلِكَ بِمُقَابِلِ مَا افْتُتِحَتْ بِهِ قِصَّةُ الْكَافرين، فجَاء التنظير بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ فِي أَبْدَعِ نَظْمٍ.

وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ فِي خِلَالِ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ اسْتِطْرَادًا. وَلَمْ تَقْتَرِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِأَدَاةِ الشَّرْطِ كَمَا قُرِنَتْ مُقَابِلَتُهَا بِهَا وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ لَمَّا كَانَ كَذِبًا اخْتَلَقُوهُ كَانَ مَظِنَّةَ أَنْ يُقْلِعَ عَنْهُ قَائِلُهُ وَأَنْ يَرْعَوِيَ إِلَى الْحَقِّ وَأَنْ لَا يُجْمِعَ عَلَيْهِ الْقَائِلُونَ، قُرِنَ بِأَدَاةِ الشَّرْطِ الْمُقْتَضِيَةِ تَكَرُّرَ ذَلِكَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى إِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، بِخِلَافِ مَا هُنَا فَإِنَّ الصِّدْقَ مَظَنَّةُ اسْتِمْرَارِ قَائِلِهِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِحَاجَةٍ إِلَى التّنبيه على تكرّره مِنْهُ.

وَالَّذِينَ اتَّقَوْا: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ تَقْوَى اللَّهِ وَخَشْيَةُ غَضَبِهِ. وَالْمُرَادُ بِهِمُ

الْمُؤْمِنُونَ الْمَعْهُودُونَ فِي مَكَّةَ، فَالْمَوْصُولُ لِلْعَهْدِ.

وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ سُئِلُوا عَنِ الْقُرْآنِ، وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَأَرْشَدُوا السَّائِلِينَ وَلَمْ يَتَرَدَّدُوا فِي الْكَشْفِ عَنْ حَقِيقَةِ الْقُرْآنِ بِأَوْجَزِ بَيَانٍ وَأَجْمَعِهِ، وَهُوَ كَلِمَةُ خَيْراً الْمَنْصُوبَةُ، فَإِنَّ لَفْظَهَا شَامِلٌ لِكُلِّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَكُلِّ خَيْرٍ فِي الْآخِرَةِ، وَنَصْبُهَا دَالٌّ عَلَى أَنَّهُمْ جَعَلُوهَا مَعْمُولَةً لِ أَنْزَلَ الْوَاقِعُ فِي سُؤَالِ السَّائِلِينَ، فَدَلَّ النَّصْبُ عَلَى أَنَّهُمْ مُصَدِّقُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهَذَا وَجْهُ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الرَّفْعِ فِي جَوَابِ الْمُشْرِكِينَ حِينَ قِيلَ لَهُمْ:

مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [سُورَة النَّحْل: ٢٤] بِالرَّفْعِ وَبَيْنَ النَّصْبِ فِي كَلَامِ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً بِالنَّصْبِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ.