اضْطِرَابِ عُقُولِهِمْ يَحْسَبُونَ الْمَلَائِكَةَ إِنَّمَا يُجَرِّبُونَهُمْ بِالْعَذَابِ لِيَطَّلِعُوا عَلَى دَخِيلَةِ أَمْرِهِمْ، فَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ إِنْ كَذَبُوهُمْ رَاجَ كَذِبُهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَكَفُّوا عَنْهُمُ الْعَذَابَ، لِذَلِكَ جَحَدُوا أَنْ يَكُونُوا يَعْمَلُونَ سُوءًا مِنْ قَبْلُ.
وَلِذَلِكَ فَجُمْلَةُ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ جَوَابُ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ افْتُتِحَتْ بِالْحَرْفِ الَّذِي يَبْطُلُ بِهِ النَّفْيُ وَهُوَ بَلى. وَقَدْ جَعَلُوا عِلْمَ اللَّهِ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ كِنَايَةً عَنْ تَكْذِيبِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ، وَكِنَايَةً عَلَى أَنَّهُمْ مَا عَامَلُوهُمْ بِالْعَذَابِ إِلَّا بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الْعَالِمِ بِهِمْ.
وَأَسْنَدُوا الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ دُونَ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّا نَعْلَمُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، أَدَبًا مَعَ اللَّهِ وَإِشْعَارًا بِأَنَّهُمْ مَا عَلِمُوا ذَلِكَ إِلَّا بِتَعْلِيمٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَتَفْرِيعُ فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ عَلَى إِبْطَالِ نَفْيِهِمْ عَمَلَ السُّوءِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ إِثْبَاتَ كَوْنِهِمْ كَانُوا يَعْمَلُونَ السُّوءَ يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَهُمُ الْعَذَاب، وَذَلِكَ عِنْد مَا كُشِفَ لَهُمْ عَنْ مَقَرِّهِمُ الْأَخِيرِ، كَمَا
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ» .
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ [سُورَة الْأَنْفَال: ٥٠] .
وَجُمْلَةُ فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ تَذْيِيلٌ. يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةَ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ الْحِكَايَةِ لَا مِنَ الْمَحْكِيِّ، وَوَصْفُهُمْ بِالْمُتَكَبِّرِينَ يُرَجِّحُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لِرَبْطِ هَذِهِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [سُورَة النَّحْل: ٢٢] . وَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى «بِئْسَ» لَامُ الْقَسَمِ.
وَالْمَثْوَى. الْمَرْجِعُ. مِنْ ثَوَى إِذَا رَجَعَ، أَوِ الْمَقَامُ مِنْ ثَوَى إِذَا أَقَامَ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٢٨] .
وَلَمْ يُعَبِّرْ عَنْ جَهَنَّمَ بِالدَّارِ كَمَا عَبَّرَ عَنِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَأْتِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ [سُورَة النَّحْل: ٣٠] تَحْقِيرًا لَهُمْ وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا فِي جَهَنَّمَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الدَّارِ بَلْ هُمْ مُتَرَاصُّونَ فِي النَّارِ وَهُمْ فِي مَثْوًى، أَيْ مَحَلٍّ ثَوَاءٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute