وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عَاشُورٍ جَدِّي فِي تَعْلِيقٍ لَهُ عَلَى حَدِيثِ فَضْلِ إِخْفَاءِ الصَّدَقَةِ مِنْ «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» : «عَطْفُ إِيتَاءِ الْفُقَرَاءِ عَلَى الْإِخْفَاءِ الْمَجْعُولِ شَرْطًا لِلْخَيْرِيَّةِ فِي الْآيَةِ- مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الصَّدَقَةَ لِلْفُقَرَاءِ- يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْخَيْرِيَّةَ لِإِخْفَاءِ حَالِ الْفَقِيرِ وَعَدَمِ إِظْهَارِ الْيَدِ الْعُلْيَا عَلَيْهِ» ، أَيْ فَهُوَ إِيمَاءٌ إِلَى الْعِلَّةِ وَأَنَّهَا الْإِبْقَاءُ عَلَى مَاءِ وَجْهِ الْفَقِيرِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْفَصْلُ لِانْتِفَاءِ شَائِبَةِ الرِّيَاء.
وَقَوله: وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ قَرَأَهُ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ بِنُونِ الْعَظَمَةِ، وبجزم الرَّاء عطفاء عَلَى مَوْضِعِ جُمْلَةِ الْجَوَابِ وَهِيَ جُمْلَةُ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، فَيَكُونُ التَّكْفِيرُ مُعَلَّقًا عَلَى الْإِخْفَاءِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِالنُّونِ أَيْضًا وَبِرَفْعِ الرَّاءِ عَلَى أَنَّهُ وَعْدٌ عَلَى إِعْطَاءِ الصَّدَقَاتِ ظَاهِرَةً أَوْ خَفِيَّةً وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ بِالتَّحْتِيَّةِ- عَلَى أَنَّ ضَمِيرَهُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ- وَبِالرَّفْعِ.
[٢٧٢]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢٧٢]
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (٢٧٢)
اسْتِئْنَافٌ مُعْتَرَضٌ بِهِ بَيْنَ قَوْلِهِ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ [الْبَقَرَة: ٢٧١] وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ، وَمُنَاسَبَتُهُ هُنَا أَنَّ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ يَلُوحُ مِنْ خِلَالِهَا أَصْنَافٌ مِنَ النَّاسِ: مِنْهُمُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمِنْهُمُ
الَّذِينَ يُبْطِلُونَ صَدَقَاتِهِمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يَتَيَمَّمُونَ الْخَبِيثَ مِنْهُ يُنْفِقُونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُهُمْ بِالْفَحْشَاءِ. وَكَانَ وُجُودُ هَذِهِ الْفِرَقِ مِمَّا يَثْقُلُ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَقَّبَ اللَّهُ ذَلِكَ بِتَسْكِينِ نَفْسِ رَسُولِهِ وَالتَّهْوِينِ عَلَيْهِ بِأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ هُدَاهُمْ وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْبَلَاغُ. فَالْهُدَى هُنَا بِمَعْنَى الْإِلْجَاءِ لِحُصُولِ الْهُدَى فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَمَّا الْهُدَى بِمَعْنَى التَّبْلِيغِ وَالْإِرْشَادِ فَهُوَ عَلَى النَّبِيءِ، وَنَظَائِرُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ. فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى جَمِيعِ مَنْ بَقِيَ فِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ عَدَمِ الْهُدَى وَأَشَدُّهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُنَافِقُونَ، وَقِيلَ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى نَاسٍ مَعْرُوفِينَ، رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لأسماء ابْنة أَبِي بَكْرٍ أُمٌّ كَافِرَةٌ وَجَدٌّ كَافِرٌ فَأَرَادَتْ أَسْمَاءُ- عَامَ عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ- أَنْ تُوَاسِيَهُمَا بِمَالٍ، وَأَنَّهُ أَرَادَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ الصَّدَقَةَ عَلَى قَرَابَتِهِمْ وَأَصْهَارِهِمْ فِي بَنِي النَّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ، فَنَهَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute