وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَمَنْ تَطَوَّعَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ يَطَّوَّعْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ وَيَاءِ الْغَيْبَةِ وَجَزْمِ الْعَيْنِ.
ومِنْ هُنَا شَرْطِيَّةٌ بِدَلِيلِ الْفَاءِ فِي جَوَابِهَا. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ دَلِيلُ الْجَوَابِ إِذِ التَّقْدِيرُ وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا جُوزِيَ بِهِ لِأَنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ أَيْ لَا يُضِيعُ أَجْرَ مُحْسِنٍ، عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَنْهُ إِحْسَانُهُ، وَذَكَرَ الْوَصْفَيْنِ لِأَنَّ تَرْكَ الثَّوَابِ عَنِ الْإِحْسَانِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ جُحُودٍ لِلْفَضِيلَةِ أَوْ جَهْلٍ بِهَا فَلِذَلِكَ نُفِيَا بِقَوْلِهِ: شاكِرٌ عَلِيمٌ وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ شاكِرٌ هُنَا اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ شَبَّهَ شَأْنَ اللَّهِ فِي جَزَاءِ الْعَبْدِ عَلَى الطَّاعَةِ بِحَالِ الشَّاكِرِ لِمَنْ أَسْدَى إِلَيْهِ نِعْمَةً، وَفَائِدَةُ هَذَا التَّشْبِيهِ تَمْثِيلُ تَعْجِيلِ الثَّوَابِ وَتَحْقِيقِهِ لِأَنَّ حَالَ الْمُحْسَنِ إِلَيْهِ أَنْ يُبَادِرَ بشكر المحسن.
[١٥٩، ١٦٠]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : الْآيَات ١٥٩ إِلَى ١٦٠]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠)
عَوْدٌ بِالْكَلَامِ إِلَى مَهْيَعِهِ الَّذِي فُصِلَ عَنْهُ بِمَا اعْتَرَضَ مِنْ شَرْعِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ كَمَا عَلِمْتَهُ آنِفًا.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ إِنَّ هَاتِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عُلَمَاءِ الْيَهُودِ فِي كَتْمِهِمْ دَلَائِلَ صِدْقِ النَّبِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِفَاتِهِ وَصِفَاتِ دِينِهِ الْمَوْجُودَةِ فِي التَّوْرَاةِ وَفِي كَتْمِهِمْ آيَةَ الرَّجْمِ، وَهُوَ يَقْتَضِي
أَنْ اسْمُ الْمَوْصُولِ لِلْعَهْدِ فَإِنَّ الْمَوْصُول يَأْتِي لِمَا يَأْتِي لَهُ الْمُعَرَّفُ بِاللَّامِ وَعَلَيْهِ فَلَا عُمُومَ هُنَا، وَأَنَا أَرَى أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْمَوْصُولِ هُنَا لِلْجِنْسِ فَهُوَ كَالْمُعَرَّفِ بِلَامِ الِاسْتِغْرَاقِ فَيَعُمُّ وَيَكُونُ مِنَ الْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ وَلَا يُخَصَّصُ بِسَبَبِهِ وَلَكِنَّهُ يَتَنَاوَلُ أَفْرَادَ سَبَبِهِ تَنَاوُلًا أَوَّلِيًّا أَقْوَى مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى بَقِيَّةِ الْأَفْرَادِ الصَّالِحِ هُوَ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهَا لِأَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ عَلَى صُورَةِ السَّبَبِ قَطْعِيَّةٌ وَدَلَالَتُهُ عَلَى غَيْرِهَا مِمَّا يَشْمَلُهُ مَفْهُومُ الْعَامِّ دَلَالَةٌ ظَنِّيَّةٌ، فَمُنَاسَبَةُ وَقْعِ هَاتِهِ الْآيَةِ بَعْدَ الَّتِي قَبْلَهَا أَنَّ مَا قَبْلَهَا كَانَ مِنَ الْأَفَانِينِ الْقُرْآنِيَّةِ الْمُتَفَنِّنَةِ عَلَى ذِكْرِ مَا قَابَلَ بِهِ الْيَهُودُ دَعْوَةَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَشْبِيهِهِمْ فِيهَا بِحَالِ سَلَفِهِمْ فِي مُقَابَلَةِ دَعْوَةِ أَنْبِيَائِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِلَى مَبْلَغِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ٧٥]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute