لِإِخْرَاجِ طَوَافِ الْقُدُومِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِعْلًا بِجَمِيعِ الْبَدَنِ إِلَّا أَنه بِهِ مَثِيلٌ مَفْرُوضٌ وَهُوَ الْإِفَاضَةُ فَأَغْنَى عَنْ جَعْلِهِ فَرْضًا، وَلِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: «اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ» (١) ، وَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ فِي الْوُجُوبِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْفَرْضَ وَالْوَاجِبَ مُتَرَادِفَانِ عِنْدَنَا فِي الْحَجِّ، فَالْوَاجِبُ دُونَ الْفَرْضِ لَكِنَّ الْوُجُوبَ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ الْأَمْرِ مُسَاوٍ لِلْفَرْضِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ يَنْجَبِرُ بِالنُّسُكِ وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ لِذَلِكَ بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ فِي الدَّلَالَةِ فَلَا يَكُونُ فَرْضًا بَلْ وَاجِبًا لِأَنَّ الْآيَةَ قَطْعِيَّةُ الْمَتْنِ فَقَطْ وَالْحَدِيثُ ظَنِّيٌّ فِيهِمَا، وَالْجَوَابُ أَن مَجْمُوع الظَّوَاهِر مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ يَدُلُّ عَلَى الْفَرْضِيَّةِ وَإِلَّا فَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ لَا دَلِيلَ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ وَكَذَلِكَ الْإِحْرَامُ فَمَتَى يَثْبُتُ هَذَا النَّوْعُ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ بِالْفَرْضِ؟ وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ.
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ لِمَا أَفَادَتْهُ الْآيَةُ مِنَ الْحَثِّ عَلَى السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بِمَفَادِ قَوْلِهِ: مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ، وَالْمَقْصِدُ مِنْ هَذَا التَّذْيِيلِ الْإِتْيَانُ بِحُكْمٍ كُلِّيٍّ فِي أَفْعَالِ الْخَيْرَاتِ كُلِّهَا مِنْ فَرَائِضَ وَنَوَافِلَ أَوْ نَوَافِلَ فَقَطْ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ خَيْراً خُصُوصَ السَّعْيِ لِأَنَّ خَيْرًا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَهِيَ عَامَّةٌ وَلِهَذَا عُطِفَتِ الْجُمْلَةُ بِالْوَاوِ دُونَ الْفَاءِ لِئَلَّا يَكُونَ الْخَيْرُ قَاصِرًا عَلَى الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الصِّيَامِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ [الْبَقَرَة: ١٨٤] لِأَنَّهُ أُرِيدَ هُنَالِكَ بَيَانُ أَنَّ الصَّوْمَ مَعَ وُجُودِ الرُّخْصَةِ فِي الْفِطْرِ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ أَوْ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى إِطْعَامِ مِسْكِينٍ أَفْضَلُ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَتَطَوَّعَ يُطْلَقُ بِمَعْنَى فَعَلَ طَاعَةً وَتَكَلَّفَهَا، وَيُطْلَقُ مُطَاوِعُ طَوَّعَهُ أَيْ جَعَلَهُ مُطِيعًا فَيَدُلُّ عَلَى مَعْنَى التَّبَرُّعِ غَالِبًا لِأَنَّ التَّبَرُّعَ زَائِدٌ فِي الطَّاعَةِ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَانْتِصَابُ خَيْراً عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ تَطَوَّعَ بِخَيْرٍ أَوْ بِتَضْمِينِ تَطَوَّعَ مَعْنَى فَعَلَ أَوْ أَتَى. وَلَمَّا كَانَتِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا فَلَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ السَّعْيَ مِنَ التَّطَوُّعِ أَيْ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ لِأَنَّهَا لِإِفَادَةِ حُكْمٍ كُلِّيٍّ بَعْدَ ذِكْرِ تَشْرِيعٍ عَظِيمٍ، عَلَى أَنَّ تَطَوَّعَ لَا يَتَعَيَّنُ لِكَوْنِهِ بِمَعْنَى تَبَرَّعَ بَلْ يَحْتَمِلُ مَعْنَى أَتَى بِطَاعَةٍ أَوْ تَكَلَّفَ طَاعَةً.
(١) أخرجه أَحْمد فِي «مُسْنده» (٦/ ٤٢١) ، ط الْحلَبِي.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute