للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَفرع على هَذَا التَّذْكِيرِ تَحْضِيضُهُمْ عَلَى التَّصْدِيقِ، أَيْ بِالْخَلْقِ الثَّانِي وَهُوَ الْبَعْثُ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي لَمْ يصدقُوا بِهِ.

[٥٨، ٥٩]

[سُورَة الْوَاقِعَة (٥٦) : الْآيَات ٥٨ إِلَى ٥٩]

أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩)

تَفْرِيعٌ عَلَى نَحْنُ خَلَقْناكُمْ [الْوَاقِعَة: ٥٧] ، أَيْ خَلَقْنَاكُمُ الْخَلْقَ الَّذِي لَمْ تَرَوْهُ وَلَكِنَّكُمْ تُوقِنُونَ بِأَنَّا خَلَقْنَاكُمْ فَتَدَبَّرُوا فِي خَلْقِ النَّسْلِ لِتَعْلَمُوا أَنَّ إِعَادَةَ الْخَلْقِ تُشْبِهُ ابْتِدَاءَ الْخَلْقِ.

وَذُكِرَتْ كَائِنَاتٌ خَمْسَةٌ مُخْتَلِفَةُ الْأَحْوَالِ مُتَّحِدَةُ الْمَآلِ إِذْ فِي كُلِّهَا تَكْوِينٌ لِمَوْجُودٍ مِمَّا كَانَ عَدَمًا، وَفِي جَمِيعِهَا حُصُولُ وُجُودٍ مُتَدَرِّجٍ إِلَى أَنْ تَتَقَوَّمَ بِهَا الْحَيَاةُ وَابْتُدِئَ بِإِيجَادِ النَّسْلِ مِنْ مَاءٍ مَيِّتٍ، وَلَعَلَّهُ مَادَّةُ الْحَيَاةِ بِنَسْلِكُمْ فِي الْأَرْحَامِ مِنَ النُّطَفِ تَكْوِينًا مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ.

وَالْاِسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ بِتَعْيِينِ خَالِقِ الْجَنِينِ مِنَ النُّطْفَةِ إِذْ لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا أَنْ يُقِرُّوا بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ النَّسْلِ مِنَ النُّطْفَةِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ قُدْرَتَهُ عَلَى مَا هُوَ مِنْ نَوْعِ إِعَادَةِ الْخَلْقِ.

وَإِنَّمَا ابْتُدِئَ الْاِسْتِدْلَالُ بِتَقْدِيمِ جُمْلَةِ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ زِيَادَةً فِي إِبْطَالِ شُبْهَتِهِمْ إِذْ قَاسُوا الْأَحْوَالَ الْمُغَيَّبَةِ عَلَى الْمُشَاهَدَةِ فِي قُلُوبِهِمْ لَا نُعَادُ بَعْدَ أَنْ كُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا، وَكَانَ حَقُّهُمْ أَنْ يَقِيسُوا عَلَى تَخَلُّقِ الْجَنِينِ مِنْ مَبْدَأِ مَاءِ النُّطْفَةِ فيقولوا: لَا تتخلق من النُّطْفَة الْميتَة أجسام حَيَّة كَمَا قَالُوا: لَا تَصِيرُ الْعِظَامُ الْبَالِيَةُ ذَوَاتًا حَيَّةً، وَإِلَّا فَإِنَّهُمْ لَمْ يَدَّعُوا قَطُّ أَنَّهُمْ خَالِقُونَ، فَكَانَ قَوْلُهُ: أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ تَمْهِيدًا لِلْاِسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ الْأَجِنَّةِ بِقُدْرَتِهِ، وَأَنَّ تِلْكَ الْقُدْرَة لَا تقصر عَن الْخَلْقِ الثَّانِي عِنْدَ الْبَعْثِ.

وَفِعْلُ الرُّؤْيَةِ فِي «أَرَأَيْتُمْ» مِنْ بَابِ (ظَنَّ) لِأَنَّهُ لَيْسَ رُؤْيَةَ عَيْنٍ. وَقَالَ الرَّضِيُّ: هُوَ فِي مِثْلِهِ مَنْقُولٌ مَنْ رَأَيْتَ، بِمَعْنَى أَبْصَرْتَ أَوْ عَرَفْتَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَأَبْصَرْتَ حَالَهُ الْعَجِيبَةَ أَوْ أَعَرَفْتَهَا، أَخْبِرْنِي عَنْهَا، فَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْاِسْتِخْبَارِ عَنْ حَالَةٍ عَجِيبَةٍ لِشَيْءٍ اه، أَيْ لِأَنَّ أَصْلَ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ لَا مِنْ أَفْعَالِ الْعَقْلِ.