كَانَتْ مَشِيئَتُهُ أَيْ إِرَادَتُهُ جَارِيَةً عَلَى وَفْقِ حِكْمَتِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ كَيْفِيَّاتِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَهِيَ مِنْ
تعلقات الْعلم الإلاهي بِإِبْرَازِ الْحَوَادِثِ عَلَى مَا يَنْبَغِي وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [الْبَقَرَة: ٣٢] فَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ حَقِيقٌ بِهَا لَا سِيَّمَا الرَّحْمَةِ الْمُرَادُ مِنْهَا النُّبُوءَةُ فَإِنَّ اللَّهَ يَخْتَصُّ بِهَا مِنْ خَلْقِهِ قَابِلًا لَهَا فَهُوَ يَخْلُقُهُ عَلَى صَفَاءِ سَرِيرَةٍ وَسَلَامَةِ فِطْرَةٍ صَالِحَةٍ لِتَلَقِّي الْوَحْيِ شَيْئًا فَشَيْئًا قَالَ تَعَالَى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً [يُوسُف: ٢٢] وَقَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَام: ١٢٤] وَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنِ النُّبُوءَةُ حَاصِلَةً بِالِاكْتِسَابِ لِأَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ لِلنُّبُوءَةِ مَنْ أَرَادَهُ لَهَا لِخَطَرِ أَمْرِهَا بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنَ الْفَضَائِلِ فَهُوَ مُمْكِنُ الِاكْتِسَابِ كَالصَّلَاحِ وَالْعِلْمِ وَغَيْرِهِمَا فَرُبَّ فَاسِقٍ صَلُحَتْ حَالُهُ وَرُبَّ جَاهِلٍ مُطْبِقٍ صَارَ عَالِمًا بِالسَّعْيِ وَالِاكْتِسَابِ وَمَعَ هَذَا فَلَا بُدَّ لِصَاحِبِهَا مِنَ اسْتِعْدَادٍ فِي الْجُمْلَةِ ثُمَّ وَرَاءَ ذَلِكَ التَّوْفِيقُ وَعِنَايَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِعَبْدِهِ. وَلَمَّا كَانَتِ الِاسْتِعْدَادَاتُ لِمَرَاتِبِ الرَّحْمَةِ مِنَ النُّبُوءَةِ فَمَا دُونَهَا غَيْرَ بَادِيَةٍ لِلنَّاسِ طَوَى بِسَاطَ تَفْصِيلِهَا لِتَعَذُّرِهِ وَوُكِلَ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ إِلَّا بِمَا عَلِمَهُ وَاقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ سُبْحَانَهُ رِفْقًا بِأَفْهَامِ الْمُخَاطَبِينَ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ تَذْيِيلٌ لِأَنَّ الْفَضْلَ يَشْمَلُ إِعْطَاءَ الْخَيْرِ وَالْمُعَامَلَةَ بِالرَّحْمَةِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ وَاجِبَ مُرِيدِ الْخَيْرِ التَّعَرُّضُ لِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَالرَّغْبَةُ إِلَيْهِ فِي أَنْ يَتَجَلَّى عَلَيْهِ بِصِفَةِ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ فَيَتَخَلَّى عَنِ الْمَعَاصِي وَالْخَبَائِثِ وَيَتَحَلَّى بِالْفَضَائِلِ وَالطَّاعَاتِ عَسَى أَنْ يُحِبَّهُ رَبُّهُ
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ» .
[١٠٦]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ١٠٦]
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦)
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها.
مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِلْآيَاتِ قَبْلَهَا أَنَّ الْيَهُودَ اعْتَذَرُوا عَنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِمْ: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا [الْبَقَرَة: ٩١] وَأَرَادُوا بِهِ أَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِغَيْرِهِ، وَهُمْ فِي عُذْرِهِمْ ذَلِكَ يَدَّعُونَ أَنَّ شَرِيعَتَهُمْ لَا تُنْسَخُ وَيَقُولُونَ إِنَّ مُحَمَّدًا وَصَفَ التَّوْرَاةَ بِأَنَّهَا حَقٌّ وَأَنَّهُ جَاءَ مُصَدِّقًا لَهَا فَكَيْفَ يَكُونُ شَرْعُهُ مُبْطِلًا لِلتَّوْرَاةِ وَيُمَوِّهُونَ عَلَى النَّاسِ بِمَا سَمَّوْهُ الْبَدَاءَ وَهُوَ لُزُومُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى غَيْرَ عَالِمٍ بِمَا يَحْسُنُ تَشْرِيعُهُ وَأَنَّهُ يَبْدُو لَهُ الْأَمْرُ ثُمَّ يعرض عَنهُ ويبذل شَرِيعَةً بِشَرِيعَةٍ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَدَّ عَلَيْهِمْ عُذْرَهُمْ وَفَضَحَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مُتَمَسِّكِينَ بِشَرْعِهِمْ حَتَّى يَتَصَلَّبُوا فِيهِ وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ [الْبَقَرَة: ٩١] وَقَوْلُهُ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute