حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ وُقُوعُ جُمْلَتِهِ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا. وَكَانَ مَضْمُونُهَا مَفْعُولًا لِقَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ تَصْدِيرُ جُمْلَتِهَا بِاسْمِ الْإِشَارَةِ عقب وَصْفِ الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ بِأَوْصَافٍ.
وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْأَعْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ أَنْ تَكُونَ فَاعِلَةً وَمُنْفَعِلَةً بِاخْتِلَافِ الْمُثَارِ وَمَا تَتْرُكُهُ مِنَ الْآثَارِ لِأَنَّهَا عِلَلٌ وَمَعْلُولَاتٌ بِالِاعْتِبَارِ لَا يَتَوَقَّفُ وُجُودُ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ مِنْهُمَا عَلَى وُجُودِ الْآخَرِ التَّوَقُّفَ الْمُسَمَّى بِالدَّوْرِ الْمَعِيِّ.
وَالْمُبِينُ: الشَّدِيدُ الَّذِي لَا يَخْفَى لِشِدَّتِهِ، فَالْمُبِينُ كِنَايَةٌ عَنِ الْقُوَّةِ وَالرُّسُوخِ فَهُوَ يَبِينُ لِلْمُتَأَمِّلِ أَنَّهُ ضَلَالٌ.
[٢٣]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٢٣]
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣)
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ.
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَشَأَ بِمُنَاسَبَةِ الْمُضَادَّةِ بَيْنَ مَضْمُونِ جُمْلَةِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: ٢٢] . وَمَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ يُلَيِّنُ قُلُوبَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ لِأَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ عَنْ وَجْهِ قَسْوَةِ قُلُوبِ الضَّالِّينَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَكَانَتْ جُمْلَةُ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ هادٍ مُبَيِّنَةً أَنَّ قَسَاوَةَ قُلُوبِ الضَّالِّينَ مِنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ إِنَّمَا هِيَ لِرَيْنٍ فِي قُلُوبِهِمْ وَعُقُولِهِمْ لَا لِنَقْصٍ فِي هِدَايَتِهِ. وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢] : هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ [الْبَقَرَة: ٦- ٧] .
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَكْمِيلٌ لِلتَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ الْمُفْتَتَحِ بِهِ غَرَضُ السُّورَةِ وَسَيُقَفَّى بِثَنَاءٍ آخَرَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الزمر: ٢٧]
الْآيَةَ، ثُمَّ بِقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ [الزمر: ٤١] ثُمَّ بِقَوْلِهِ: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر: ٥٥] .
وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ يُؤْذِنُ بِتَفْخِيمِ أَحْسَنِ الْحَدِيثِ الْمُنَزَّلِ بِأَنَّ مُنْزِلَهُ هُوَ أَعْظَمُ عَظِيمٍ، ثُمَّ الْإِخْبَارُ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ بِالْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ يَدُلُّ عَلَى تَقْوِيَةِ الْحُكْمِ