مَضَوْا وَلَا رَجَعُوا فَجَعَلْنَا لَهُمُ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا قبل عَذَاب الْآخِرَةِ وَأَرَحْنَا مِنْهُمُ الْمُؤْمِنِينَ وَتَرَكْنَاهُمْ عِبْرَةً وَمَوْعِظَةً لمن بعدهمْ.
[٦٨]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٦٨]
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨)
قَدْ يلوح فِي بادىء الرَّأْيِ أَنَّ مَوْقِعَ هَذِهِ الْآيَةِ كَالْغَرِيبِ عَنِ السِّيَاقِ فَيَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّهَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ انْتَقَلَ بِهِ من غَرَضُ الْحَدِيثِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَأَحْوَالِهِمْ وَالْإِمْلَاءِ لَهُمْ إِلَى التَّذْكِيرِ بِأَمْرٍ عَجِيبٍ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ حَتَّى يُخَالُ أَنَّ الَّذِي اقْتَضَى وُقُوعَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْمَوْقِعِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي تِبَاعِ نُزُولِ الْآيَاتِ قَبْلَهَا لِسَبَبٍ اقْتَضَى نُزُولَهَا.
فَجَعَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَوْقِعَهَا مَوْقِعَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا
يُسْتَصْعَبُ عَلَيْهَا طَمْسُ أَعْيُنِهِمْ وَلَا مَسْخُهُمْ كَمَا غَيَّرَ خِلْقَةَ الْمُعَمَّرِينَ مِنْ قُوَّةٍ إِلَى ضَعْفٍ، فَيَكُونُ قِيَاسَ تَقْرِيبٍ مِنْ قَبِيلِ مَا يُسَمَّى فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ وَبِالْأَدْوَنِ، فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى عِلَّةٍ مُقَدَّرَةٍ فِي الْكَلَامِ كَأَنَّهُ قيل: لَو نَشأ لَطَمَسْنَا إِلَخْ لِأَنَّا قَادِرُونَ عَلَى قَلْبِ الْأَحْوَالِ، أَلَا يَرَوْنَ كَيْفَ نُقَلِّبُ خَلْقَ الْإِنْسَانِ فَنَجْعَلُهُ عَلَى غَيْرِ مَا خَلَقْنَاهُ أَوَّلًا. وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ فَمَوْقِعُ وَاوِ الْعَطْفِ غَيْرُ شَدِيدِ الِانْتِظَامِ. وَجَعَلَهَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَاقِعَةً مَوْقِعَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَكَانِ الْبَعِيدِ، أَيْ أَنَّ الَّذِي قَدَرَ عَلَى تَغْيِيرِ خَلْقِهِمْ مِنْ شَبَابٍ إِلَى هَرَمٍ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَبْعَثَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ فَهُوَ أَيْضًا قِيَاسُ تَقْرِيبٍ بِالْخَفِيِّ وَبِالْأَدْوَنِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَيْهَا مُعْرِضًا عَمَّا قَبْلَهَا فَتَكَلَّمُوا عَلَى مَعْنَاهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْعِبْرَةِ وَلَمْ يُبَيِّنُوا وَجْهَ اتِّصَالِهَا بِمَا قَبْلَهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا لِقَطْعِ مَعْذِرَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنْ يَقُولُوا: مَا لَبِثْنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا عَمْرًا قَلِيلًا وَلَوْ عَمَّرْنَا طَوِيلًا لَمَا كَانَ مِنَّا تَقْصِيرٌ، وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ. وَكُلُّ هَذِهِ التَّفَاسِيرِ تَحُومُ حَوْلَ جَعْلِ الْخَلْقِ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ، أَيْ فِي خِلْقَتِهِ أَوْ فِي أَثَرِ خَلْقِهِ.
وَكُلُّ هَذِهِ التَّفْسِيرَاتِ بَعِيدٌ عَنْ نَظْمِ الْكَلَامِ، فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الَّذِي دَفَعَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute