عَنْ حِرْمَانِ تِلْكَ الْمَسَاكِنِ مِنَ السَّاكِنِ. وَتِلْكَ الْكِنَايَةُ رَمْزٌ إِلَى شِدَّةِ غَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَهْلِهَا الْأَوَّلِينَ بِحَيْثُ تَجَاوَزَ غَضَبُهُ السَّاكِنِينَ إِلَى نَفْسِ الْمَسَاكِنِ فَعَاقَبَهَا بِالْحِرْمَانِ مِنْ بَهْجَةِ الْمَسَاكِنِ لِأَنَّ بَهْجَةَ الْمَسَاكِنِ سُكَّانُهَا، فَإِنَّ كَمَالَ الْمَوْجُودَاتِ هُوَ بِهِ قوام حقائقها.
[٥٩]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ٥٩]
وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩)
أُعْقِبَ الِاعْتِبَارُ بِالْقُرَى الْمُهْلِكَةِ بِبَيَانِ أَشْرَاطِ هَلَاكِهَا وَسَبَبِهِ، اسْتِقْصَاءً لِلْإِعْذَارِ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ، فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنْ لَيْسَ مِنْ عَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُهْلِكَ الْقُرَى الْمُسْتَأْهِلَةَ الْإِهْلَاكَ حَتَّى يَبْعَثَ رَسُولًا فِي الْقَرْيَةِ الْكُبْرَى مِنْهَا لِأَنَّ الْقَرْيَةَ الْكُبْرَى هِيَ مَهْبِطُ أَهْلِ الْقُرَى وَالْبَوَادِي الْمُجَاوِرَةِ لَهَا فَلَا تَخْفَى دَعْوَةُ الرَّسُولِ فِيهَا وَلِأَنَّ أَهْلَهَا قُدْوَةٌ لِغَيْرِهِمْ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَهُمْ أَكْثَرُ اسْتِعْدَادًا لِإِدْرَاكِ الْأُمُورِ عَلَى وَجْهِهَا فَهَذَا بَيَانُ أَشْرَاطِ الْإِهْلَاكِ.
والْقُرى: هِيَ الْمَنَازِلُ لِجَمَاعَاتٍ مِنَ النَّاسِ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ الْمَبْنِيَّةِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فِي الْبَقَرَةِ [٥٨] .
وَخُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِهَا أَظْهَرُ لِأَنَّهَا إِذَا أُهْلِكَتْ بَقِيَتْ آثَارُهَا وَأَطْلَالُهَا وَلَمْ يَنْقَطِعْ خَبَرُهَا مِنَ الْأَجْيَالِ الْآتِيَةِ بَعْدَهَا وَيُعْلَمُ أَنَّ الْحِلَلَ وَالْخِيَامَ مِثْلُهَا بِحُكْمِ دَلَالَةِ الْفَحْوَى.
وَإِفْرَاغُ النَّفْيِ فِي صِيغَةِ مَا كَانَ فَاعِلًا وَنَحْوِهِ مِنْ صِيَغِ الْجُحُودِ يُفِيدُ رسوخ هَذِه الْعَادة وَاطِّرَادَهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظَائِرِهِ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٧٩] وَقَوْلِهِ وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٣٧] .
وَقُرَى بِلَادِ الْعَرَبِ كَثِيرَةٌ مِثْلُ مَكَّةَ وَجُدَّةَ وَمِنًى وَالطَّائِفِ وَيَثْرِبَ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى وَكَذَلِكَ قُرَى الْيَمَنِ وَقُرَى الْبَحْرَيْنِ. وَأُمُّ الْقُرَى هِيَ الْقَرْيَةُ الْعَظِيمَةُ مِنْهَا وَكَانَتْ مَكَّةُ أَعْظَمَ بِلَادِ الْعَرَبِ شُهْرَةً وَأَذْكَرَهَا بَيْنَهُمْ وَأَكْثَرَهَا مَارَّةً وَزُوَّارًا لِمَكَانِ الْكَعْبَةِ فِيهَا وَالْحَجِّ لَهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute