[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢١٦]
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٢١٦)
الْمُنَاسَبَةُ أَنَّ الْقِتَالَ مِنَ الْبَأْسَاءِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ [الْبَقَرَة: ٢١٤] فَقَدْ كُلِّفَتْ بِهِ الْأُمَمُ قَبْلَنَا، فَقَدْ كُلِّفَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِقِتَالِ الْكَنْعَانِيِّينَ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكُلِّفُوا بِالْقِتَالِ مَعَ طَالُوتَ وَهُوَ شَاوَلُ مَعَ دَاوُدَ، وَكُلِّفَ ذُو الْقَرْنَيْنِ بِتَعْذِيبِ الظَّالِمِينَ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَانُوا فِي جِهَةِ الْمَغْرِبِ مِنَ الْأَرْضِ.
وَلَفْظُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ مِنْ صِيَغِ الْوُجُوبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آيَةِ الْوَصِيَّةِ. وَآل فِي (الْقِتَالِ) لِلْجِنْسِ، وَلَا يَكُونُ الْقِتَالُ إِلَّا لِلْأَعْدَاءِ فَهُوَ عَامٌّ عُمُومًا عُرْفِيًّا أَيْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ قِتَالُ عَدُوِّ الدِّينِ.
وَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَعْدَاؤُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْمُشْرِكُونَ، لِأَنَّهُمْ خَالَفُوهُمْ فِي الدِّينِ وَآذَوُا الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَالْقِتَالُ الْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ الْجِهَادُ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِي الْقِتَالِ فِي أَوَّلِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ أُذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الْحَج: ٣٩] ، ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ قِتَالِ الْمُبَادِئِينَ بِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [الْبَقَرَة: ١٩٠] كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي وَاقِعَةِ سَرِيَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ كَمَا يَأْتِي، وَذَلِكَ فِي الشَّهْرِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنِ الْهِجْرَةِ، فَالْآيَةُ وَرَدَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَعَ جُمْلَةِ التَّشْرِيعَاتِ وَالنُّظُمِ الَّتِي حَوَتْهَا كَقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [الْبَقَرَة: ١٨٣] ، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ [الْبَقَرَة: ١٧٨] ، كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [الْبَقَرَة: ١٨٠] . فَعَلَى الْمُخْتَارِ يَكُونُ قَوْلُهُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ خَبَرًا عَنْ حُكْمٍ سَبَقَ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِهِ وَلِيَنْتَقِلَ مِنْهُ إِلَى قَوْلِهِ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ الْآيَةَ، أَوْ إِعَادَةً لِإِنْشَاءِ وُجُوبِ الْقِتَالِ زِيَادَةً فِي تَأْكِيدِهِ، أَوْ إِنْشَاءً أُنُفًا لِوُجُوبِ الْقِتَالِ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ أَوَّلَ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي هَذَا الْمَعْنَى بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا إِذْنٌ فِي الْقِتَالِ وَإِعْدَادٌ لَهُ وَلَيْسَتْ بِمُوجِبَةٍ لَهُ.
وَقَوْلُهُ: وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ، حَالٌ لَازِمَةٌ وَهِيَ يَجُوزُ اقْتِرَانُهَا بِالْوَاوِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهَا
جُمْلَةً ثَانِيَةً مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ، إِلَّا أَنَّ الْخَبَرَ بِهَذَا لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا لِلْمُخَاطَبِينَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute