للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

» .

[٨٣- ٨٧]

[سُورَة الْوَاقِعَة (٥٦) : الْآيَات ٨٣ إِلَى ٨٧]

فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧)

مُقْتَضَى فَاءِ التَّفْرِيعِ أَنَّ الْكَلَامَ الْوَاقِع بعْدهَا ناشىء عَمَّا قَبْلَهُ عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِهِ وَإِذْ قَدْ كَانَ الْكَلَامُ السَّابِقُ إِقَامَةَ أَدِلَّةٍ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ الْحَيَاةِ لِلنَّاسِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَنَّ تِلْكَ الْأَدِلَّةَ أَيَّدَتْ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ، وَأَنْحَى عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ وَضَحَتْ لَهُمُ الْحُجَّةُ وَلَكِنَّهُمْ مُكَابِرُونَ فِيهَا وَمُظْهِرُونَ الْجُحُودَ وَهُمْ مُوقِنُونَ بِهَا فِي الْبَاطِنِ،

وَكُلُّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِقُوَّةِ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى إِيجَادِ مَوْجُودَاتٍ لَا تَصِلُ إِلَيْهَا مَدَارِكُ النَّاسِ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ بِدَلِيلٍ لَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِدَلَالَتِهِ.

فَالتَّفْرِيعُ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ [الْوَاقِعَة: ٦٢] وَهُوَ أَنْ عَجْزَهُمْ عَنْ إِرْجَاعِ الرُّوحِ عِنْدَ مُفَارَقَتِهَا الْجَسَدَ يُنَبِّهُهُمْ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْمُفَارَقَةَ مُقَدَّرَةٌ فِي نِظَامِ الْخِلْقَةِ وَأَنَّهَا لِحِكْمَةٍ.

فَمَعْنَى الْكَلَامِ قَدْ أَخْبَرَكُمُ اللَّهُ بِأَنَّهُ يُجَازِي النَّاسَ عَلَى أَفْعَالِهِمْ وَلِذَلِكَ فَهُوَ مُحْيِيهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ لِإِجْرَاءِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ دَلَّكُمْ عَلَى ذَلِكَ بِانْتِزَاعِ أَرْوَاحِهِمْ مِنْهُمْ قَهْرًا، فَلَوْ كَانَ مَا تَزْعُمُونَ مِنْ أَنَّكُمْ غَيْرَ مَجْزِيِّينَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَبَقِيَتِ الْأَرْوَاحُ فِي أَجْسَادِهَا، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي انْتِزَاعِهَا مِنْهَا بَعْدَ إِيدَاعِهَا فِيهَا لَوْلَا حِكْمَةُ نَقْلِهَا إِلَى حَيَاةٍ ثَانِيَةٍ، لِيَجْرِيَ جَزَاؤُهَا عَلَى أَفْعَالِهَا فِي الْحَيَاةِ الْأُولَى.

وَهَذَا نَظِيرُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ بِأَنَّ فِي كَيْنُونَةِ الْمَوْجُودَاتِ دَلَائِلَ خِلْقِيَّةٍ عَلَى أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [الرَّعْد: ١٥] . وَمَرْجِعُ هَذَا الْمَعْنَى إِلَى أَنَّ هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي حَالَةِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّ إِيدَاعَ الْأَرْوَاحِ فِي الْأَجْسَادِ تَصَرُّفٌ مِنْ تَصَرُّفِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ الْحَكِيمُ، فَمَا نَزَعَ الْأَرْوَاحَ مِنَ الْأَجْسَادِ بَعْدَ أَنْ أَوْدَعَهَا فِيهَا مُدَّةً إِلَّا لِأَنَّ انْتِزَاعَهَا مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ أَنْ تُنْتَزَعَ، وَانْحَصَرَ ذَلِكَ فِي أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهَا الْحِسَابُ عَلَى مَا اكْتَسَبَتْهُ فِي مُدَّةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.