للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَتَشْرَقَ بِالْقَوْلِ الَّذِي قَدْ أَذَعْتَهُ ... كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنَ الدَّمِ

وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ نِعْمَةٌ أُخْرَى وَهِيَ نِعْمَةُ التَّعْلِيمِ وَالْإِرْشَادِ، وَإِيضَاحِ الْحَقَائِقِ حَتَّى تَكْمُلَ عُقُولُهُمْ، وَيَتَبَيَّنُوا مَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ. وَالْبَيَانُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِظْهَارِ وَالْإِيضَاحِ. وَالْآيَاتُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا النعم، كَقَوْل الْحَرْث بْنِ حِلِّزَةَ:

مَنْ لَنَا عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ آيَا ... تٌ ثَلَاثٌ فِي كُلِّهِنَّ الْقَضَاءُ

وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا دَلَائِلُ عِنَايَتِهِ تَعَالَى بِهِمْ وَتَثْقِيفِ عُقُولِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ بِأَنْوَارِ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ. وَأَنْ يُرَادَ بِهَا آيَاتُ الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا غَايَةٌ فِي الْإِفْصَاحِ عَنِ الْمَقَاصِدِ وَإِبْلَاغِ الْمَعَانِي إِلَى الأذهان.

[١٠٤، ١٠٥]

[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٠٤ إِلَى ١٠٥]

وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥)

هَذَا مُفَرَّعٌ عَنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ: لِأَنَّهُ لَمَّا أَظْهَرَ لَهُمْ نِعْمَةَ نَقْلِهِمْ مِنْ حَالَتَيْ شَقَاءٍ وَشَنَاعَةٍ إِلَى حَالَتَيْ نَعِيمٍ وَكَمَالٍ، وَكَانُوا قَدْ ذَاقُوا بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ الْأَمَّرَيْنِ ثُمَّ الْأَحْلَوَيْنِ، فَحَلَبُوا الدَّهْرَ أَشَطْرَيْهِ، كَانُوا أَحْرِيَاءَ بِأَنْ يَسْعَوْا بِكُلِّ عَزْمِهِمْ إِلَى انْتِشَالِ غَيْرِهِمْ مِنْ سُوءِ مَا هُوَ فِيهِ إِلَى حُسْنَى مَا هُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً خَيِّرَةً. وَفِي غَرِيزَةِ الْبَشَرِ حُبُّ الْمُشَارِكَةِ فِي الْخَيْرِ لِذَلِكَ تَجِدُ الصَّبِيَّ إِذَا رَأَى شَيْئًا أَعْجَبَهُ نَادَى مَنْ هُوَ حَوْلَهُ لِيَرَاهُ مَعَهُ.

وَلِذَلِكَ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ حَرِيًّا بِأَنْ يُعْطَفَ بِالْفَاءِ، وَلَوْ عُطِفَ بِهَا لَكَانَ أُسْلُوبًا عَرَبِيًّا إِلَّا أَنَّهُ عُدِلَ عَنِ الْعَطْفِ بِالْفَاءِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَضْمُونَ هَذَا الْكَلَامِ