وَالْمُرَادُ هَنَا مُطْلَقُ الْجَدَلِ وَبِخَاصَّةٍ مَا كَانَ مِنْهُ بِبَاطِلٍ، أَيْ أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ فِي طَبْعِهِ الْحِرْصُ عَلَى إِقْنَاعِ الْمُخَالِفِ بِأَحَقِّيَّةِ مُعْتَقَدِهِ أَوْ عَمَلِهِ. وَسِيَاقُ الْكَلَامِ يَقْتَضِي إِرَادَةَ الجدل الْبَاطِل.
[٥٥]
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : آيَة ٥٥]
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥)
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ [الْكَهْف: ٥٤] إِلَخْ. وَمَعْنَاهَا مُتَّصِلٌ تَمَامَ الِاتِّصَالِ بِمَعْنَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا بِحَيْثُ لَوْ عُطِفَتْ عَلَيْهَا بِفَاءِ التَّفْرِيعِ لَكَانَ ذَلِكَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ وَتُعْتَبَرُ جُمْلَةُ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الْكَهْف: ٥٤] مُعْتَرِضَةً بَيْنَهُمَا لَوْلَا أَنَّ فِي جَعْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُسْتَقِلَّةً بِالْعَطْفِ اهْتِمَامًا بِمَضْمُونِهَا فِي ذَاتِهِ، بِحَيْثُ يُعَدُّ تَفْرِيعُهُ عَلَى مَضْمُونِ الَّتِي قَبْلَهَا يَحِيدُ بِهِ عَنِ الْمَوْقِعِ الْجَدِيرِ هُوَ بِهِ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ إِذْ أُرِيدُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً مُقَرَّرَةً فِي النُّفُوسِ. وَلِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ فِيمَا أَرَى عَدْلٌ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ بِقَوْلِهِ: وَما مَنَعَ النَّاسَ وَبِقَوْلِهِ: إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى دُونَ أَنْ يَقُولَ: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى قَصْدًا لِاسْتِقْلَالِ الْجُمْلَةِ بِذَاتِهَا غَيْرِ مُسْتَعَانَةٍ بِغَيْرِهَا، فَتَكُونُ فَائِدَةً مُسْتَقِلَّةً تَسْتَأْهِلُ تَوَجُّهَ الْعُقُولِ إِلَى وَعْيِهَا لِذَاتِهَا لَا لِأَنَّهَا فَرْعٌ عَلَى غَيْرِهَا.
عَلَى أَنَّ عُمُومَ النَّاسَ هُنَا أَشْمَلُ مِنْ عُمُومِ لَفْظِ النَّاسَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ [الْكَهْف: ٥٤] فَإِنَّ ذَلِكَ يَعُمُّ النَّاسَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ فِي أَزْمَانِ مَا بَعْدَ نُزُولِ تِلْكَ الْآيَةِ، وَهَذَا يَعُمُّ النَّاسَ كُلَّهُمُ الَّذِينَ امْتَنَعُوا مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ.
وَكَذَلِكَ عُمُومُ لَفْظِ الْهُدى يَشْمَلُ هُدَى الْقُرْآنِ وَمَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَقْوَالِ
الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهَا، فَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ قِيَاسًا تَمْثِيلِيًّا بِشَوَاهِدِ التَّارِيخِ وَأَحْوَالِ تَلَقِّي الْأُمَمِ دَعَوَاتِ رُسُلِهِمْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute