[سُورَة الصافات (٣٧) : الْآيَات ١٤٧ إِلَى ١٤٨]
وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨)
ظَاهِرُ تَرْتِيبِ ذِكْرِ الْإِرْسَالِ بَعْدَ الْإِنْجَاءِ مِنَ الْحُوتِ أَنَّهُ إِعَادَةٌ لِإِرْسَالِهِ. وَهَذَا هُوَ مُقْتَضَى مَا فِي كِتَابِ يُونُسَ مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ إِذْ وَقَعَ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّالِثِ: ثُمَّ صَارَ قَوْلُ الرَّبِّ إِلَى يُونُسَ ثَانِيَةً: قُمِ اذْهَبْ إِلَى نِينَوَى وَنَادِ لَهَا الْمُنَادَاةَ الَّتِي أَنَا مُكَلِّمُكَ بِهَا.
وَالْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ: الْيَهُودُ الْقَاطِنُونَ فِي نِينَوَى فِي أَسْرِ الْآشُورِيِّينَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرَّسُولَ إِذَا بُعِثَ إِلَى قَوْمٍ مُخْتَلِطِينَ بِغَيْرِهِمْ أَنْ تَعُمَّ رسَالَته جَمِيع الخليط لِأَنَّ فِي تَمْيِيزِ الْبَعْضِ بِالدَّعْوَةِ تَقْرِيرًا لِكُفْرِ غَيْرِهِمْ. وَلِهَذَا لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِتَخْلِيصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ دَعَا فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ إِلَى نَبْذِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُقَدَّرَيْنِ بِمِائَةِ أَلْفٍ هُمُ الْيَهُودُ وَأَنَّ الْمَعْطُوفَيْنِ بِقَوْلِهِ: أَوْ يَزِيدُونَ هُمْ بَقِيَّةُ سُكَّانِ (نِينَوَى) . وَذُكِرَ فِي كِتَابِ يُونُسَ أَنَّ دَعْوَةَ يُونُسَ لَمَّا بَلَغَتْ مَلِكَ نِينَوَى قَامَ عَنْ كُرْسِيِّهِ وَخَلَعَ رِدَاءَهُ وَلَبِسَ مَسْحًا وَأَمَرَ أَهْلَ مَدِينَتِهِ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِيمَانِ إِلَخْ. وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ يُونُسَ دَعَا غَيْرَ أَهْلِ نِينَوَى مِنْ بِلَادِ أَشُورَ مَعَ سَعَتِهَا.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ قَالَ: «عِشْرُونَ أَلْفًا»
. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
فَحَرْفُ أَوْ فِي قَوْلِهِ: أَوْ يَزِيدُونَ بِمَعْنَى (بَلْ) عَلَى قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ وَاخْتِيَارِ الْفَرَّاءِ وَأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَابْنِ جِنِّيِّ وَابْنِ بُرْهَانَ (١) . وَاسْتَشْهَدُوا بِقَوْلِ جَرِيرٍ:
مَاذَا تَرَى فِي عِيَالٍ قَدْ بَرَمْتَ بِهِمْ ... لَمْ أُحْصِ عِدَّتَهُمْ إِلَّا بّعَدَّادِ
كَانُوا ثَمَانِينَ أَوْ زَادُوا ثَمَانِيَةً ... لَوْلَا رَجَاؤُكَ قَدْ قَتَّلْتَ أَوْلَادِي
وَالْبَصْرِيُّونَ لَا يُجِيزُونَ ذَلِكَ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ أَنْ يَتَقَدَّمَهَا نَفْيٌ أَوْ نَهْيٌ وَأَنْ يُعَادَ
(١) بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة مَمْنُوعًا من الصّرْف هُوَ سعيد بن الْمُبَارك الْبَغْدَادِيّ ولد سنة ٤٦٩ وَتُوفِّي سنة ٥٥٩.