(٤٢)
تَحْقِيقٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ مِنْ إِعْطَائِهِ الْهُدَى للعجماوات فِي شؤونه وَحِرْمَانِهِ إِيَّاهُ فَرِيقًا مِنَ الْعُقَلَاءِ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ جَارِيًا عَلَى حَسَبِ الِاسْتِحْقَاقِ لَكَانَ هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الطَّيْرِ فِي شَأْنِهِمْ.
وَتَقْدِيمُ الْمَعْمُولَيْنِ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الْعَوَالِمِ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ.
وَفِي هَذَا انْتِقَالٌ إِلَى دَلَالَةِ أَحْوَالِ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَلِذَلِكَ أعقب بقوله:
[٤٣]
[سُورَة النُّور (٢٤) : آيَة ٤٣]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣)
أَعْقَبَ الدَّلَالَةَ عَلَى إِعْطَاءِ الْهُدَى فِي قَوَانِينِ الْإِلْهَامِ فِي الْعَجْمَاوَاتِ بِالدَّلَالَةِ عَلَى خَلْقِ الْخَصَائِصِ فِي الْجَمَادِ بِحَيْثُ تَسِيرُ عَلَى السَّيْرِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ لَهَا سَيْرًا لَا يَتَغَيَّرُ، فَهِيَ بِذَلِكَ أَهْدَى مِنْ فَرِيقِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ لَهُمْ عُقُولٌ وَحَوَاسٌّ لَا يَهْتَدُونَ بِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالنَّظَرِ فِي أَدِلَّتِهَا، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ وَسَعَةِ الْعِلْمِ وَوَحْدَانِيَّةِ التَّصَرُّفِ.
وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِنِظَامِ بَعْضِ حَوَادِثِ الْجَوِّ حَتَّى آلَ إِلَى قَوْلِهِ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ.
وَقَدْ حَصَلَ مِنْ هَذَا حُسْنُ التَّخَلُّصِ لِلِانْتِقَالِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ وَسُمُوِّ الْحِكْمَةِ وَسَعَةِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ.
ويُزْجِي: يَسُوقُ. يُقَالُ: أَزْجَى الْإِبِلَ إِزْجَاءً.
وَأُطْلِقَ الْإِزْجَاءُ عَلَى دُنُوِّ بَعْضِ السَّحَابِ مِنْ بَعْضٍ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى الشَّبِيهِ بِالسَّوْقِ حَتَّى يَصِيرَ سَحَابًا كَثِيفًا، فَانْضِمَامُ بَعْضِ السَّحَابِ إِلَى بَعْضٍ عَبَّرَ عَنْهُ بِالتَّأْلِيفِ بَيْنَ أَجْزَائِهِ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ إِلَخْ.