الثَّالِثَةُ: أَنْ تُحْذَفَ (أَنْ) وَيُرْفَعَ الْفِعْلُ عَمَلًا عَلَى الْقَرِينَةِ، كَمَا رُوِيَ بَيْتُ طَرَفَةَ (أَحْضُرُ) بِرَفْعِ أَحْضُرُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْمَثَلِ (تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ) ،
وَفِي الْحَدِيثِ «تَحْمِلُ لِأَخِيكَ الرِّكَابَ صَدَقَةٌ»
. الرَّابِعَةُ: عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى الْفِعْلِ مُرَادًا بِهِ الْمَصْدَرُ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا النُّحَاةُ فِي التَّمْثِيلِ حَتَّى يُخَيَّلَ لِلنَّاظِرِ أَنَّهُ مِثَالٌ فَذٌّ فِي بَابِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [الْكَهْف: ٤] . وَأَمْثِلَتُهُ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ [الْكَهْف: ٥] ، فَضَمِيرُ بِهِ عَائِدٌ إِلَى الْقَوْلِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قالُوا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الْحَج:
٣٠] ، فَضَمِيرُ فَهُوَ عَائِدٌ لِلتَّعْظِيمِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ يُعَظِّمْ، وَقَوْلُ بَشَّارٍ:
وَاللَّهِ رَبِّ مُحَمَّدٍ ... مَا إِنْ غَدَرْتُ وَلَا نَوَيْتُهُ
أَيِ الْغَدْرَ.
وَمَعْنَى أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أَيْ لِلتَّقْوَى الْكَامِلَةِ الَّتِي لَا يَشِذُّ مَعَهَا شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَدْلَ هُوَ مِلَاكُ كَبْحِ النَّفْسِ عَنِ الشَّهْوَةِ وَذَلِكَ ملاك التّقوى.
[٩، ١٠]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : الْآيَات ٩ إِلَى ١٠]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠)
عُقِّبَ أَمْرُهُمْ بِالتَّقْوَى بِذِكْرِ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الْمُتَّقِينَ تَرْغِيبًا فِي الِامْتِثَالِ، وَعُطِفَ عَلَيْهِ حَالُ أَضْدَادِ الْمُتَّقِينَ تَرْهِيبًا. فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا. وَمَفْعُولُ وَعَدَ الثَّانِي مَحْذُوفٌ تَنْزِيلًا لِلْفِعْلِ مَنْزِلَةَ الْمُتَعَدِّي إِلَى وَاحِدٍ.
وَجُمْلَةُ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، فَاسْتُغْنِيَ بِالْبَيَانِ عَنِ الْمَفْعُولِ، فَصَارَ التَّقْدِيرُ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا لَهُمْ.
وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ هَذَا النَّظْمِ لِمَا فِي إِثْبَاتِ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ بِطَرِيقِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الثَّبَاتِ وَالتَّقَرُّرِ.