وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْ جُمْلَةِ: فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى إِدْمَاجُ الْعِبْرَةِ بِتَصَارِيفِ مَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ مُخْتَلَفِ الْأَطْوَارِ مِنَ الشَّيْءِ إِلَى ضِدِّهِ لِلتَّذْكِيرِ بِالْفَنَاءِ بَعْدَ الْحَيَاةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الرّوم: ٥٤] لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مُدَّةَ نَضَارَةِ الْحَيَاةِ لِلْأَشْيَاءِ تُشْبِهُ الْمُدَّةَ الْقَصِيرَةَ، فَاسْتُعِيرَ لِعَطْفِ جَعَلَهُ غُثاءً الْحَرْفُ الْمَوْضُوعُ لِعَطْفِ مَا يَحْصُلُ فِيهِ حكم الْمَعْطُوف بعد زمن قريب من زمن حُصُول الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ إِلَى قَوْلِهِ: فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ [يُونُس: ٢٤] .
[٦، ٧]
[سُورَة الْأَعْلَى (٨٧) : الْآيَات ٦ إِلَى ٧]
سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧)
قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّسْبِيحِ فِي قَوْلِهِ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الْأَعْلَى: ١] بِشَارَةٌ إِجْمَالِيَّةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْرٍ يَحْصُلُ لَهُ، فَهَذَا مَوْقِعُ الْبَيَانِ الصَّرِيحِ بِوَعْدِهِ بِأَنَّهُ سَيَعْصِمُهُ مِنْ نِسْيَانِ مَا يُقْرِئُهُ فَيُبَلِّغُهُ كَمَا أَوْحَى إِلَيْهِ وَيَحْفَظُهُ مِنَ التَّفَلُّتِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا تَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ الْبِشَارَةَ تُنْشِئُ فِي نَفْسِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَقُّبًا لِوَعْدٍ بِخَيْرٍ يَأْتِيهِ فَبَشَّرَهُ بِأَنَّهُ سَيَزِيدُهُ مِنَ الْوَحْيِ، مَعَ مَا فَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِ: سَنُقْرِئُكَ مِنْ قَوْلِهِ: فَلا تَنْسى وَإِذ قَدْ كَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ أَوَائِلِ السُّورِ نُزُولًا. وَقَدْ
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً إِذَا نَزَلَ جِبْرِيلُ، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ وَلِسَانَهُ، يُرِيدُ أَنْ يَحْفَظَهُ وَيَخْشَى أَنْ يَتَفَلَّتَ عَلَيْهِ فَقِيلَ لَهُ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
[الْقِيَامَة: ١٦، ١٧] ، إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِكَ وَقُرْآنَهُ أَنْ تَقْرَأَهُ:
فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [الْقِيَامَة: ١٨] . يَقُولُ: إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ فَاسْتَمِعْ، قَالَ: فَكَانَ إِذَا أَتَاهُ
جِبْرِيلُ أَطْرَقَ فَإِذَا ذَهَبَ قَرَأَهُ كَمَا قَرَأَ جِبْرِيلُ كَمَا وَعَدَهُ اللَّهُ»
وَسُورَةُ الْقِيَامَةِ الَّتِي مِنْهَا لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْأَعْلَى فَقَدْ تَعَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ بِعَوْنِهِ عَلَى حِفْظِ جَمِيعِ مَا يُوحَى إِلَيْهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute