[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٢٠٠]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)
خُتِمَتِ السُّورَةُ بِوِصَايَةٍ جَامِعَةٍ لِلْمُؤْمِنِينَ تُجَدِّدُ عَزِيمَتَهُمْ وَتَبْعَثُ الْهِمَمَ إِلَى دَوَامِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْعَدُوِّ كَيْ لَا يُثَبِّطَهُمْ مَا حَصَلَ مِنَ الْهَزِيمَةِ، فَأَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ الَّذِي هُوَ جُمَّاعُ الْفَضَائِلِ وَخِصَالُ الْكَمَالِ، ثُمَّ بِالْمُصَابَرَةِ وَهِيَ الصَّبْرُ فِي وَجْهِ الصَّابِرِ، وَهَذَا أَشَدُّ الصَّبْرِ ثَبَاتًا فِي النَّفْسِ وَأَقْرَبُهُ إِلَى التَّزَلْزُلِ، ذَلِك أَنَّ الصَّبْرَ فِي وَجْهِ صَابِرٍ آخَرَ شَدِيدٌ عَلَى نَفْسِ الصَّابِرِ لِمَا يُلَاقِيهِ مِنْ مُقَاوَمَةِ قِرْنٍ لَهُ فِي الصَّبْرِ قَدْ يُسَاوِيهِ أَوْ يَفُوقُهُ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْمُصَابِرَ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَى صَبْرِهِ حَتَّى يَمَلَّ قِرْنُهُ فَإِنَّهُ لَا يَجْتَنِي مِنْ صَبْرِهِ شَيْئًا، لِأَنَّ نَتِيجَةَ الصَّبْرِ تَكُونُ لِأَطْوَلِ الصَّابِرِينَ صَبْرًا، كَمَا قَالَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ فِي اعْتِذَارِهِ عَنِ الِانْهِزَامِ:
سَقَيْنَاهُمُ كَأْسًا سَقَوْنَا بِمِثْلِهَا ... وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْمَوْتِ أَصْبَرَا
فَالْمُصَابَرَةُ هِيَ سَبَبُ نَجَاحِ الْحَرْبِ كَمَا قَالَ شَاعِرُ الْعَرَبِ الَّذِي لَمْ يُعْرَفِ اسْمُهُ:
لَا أَنْتَ مُعْتَادٌ فِي الْهَيْجَا مُصَابَرَةً ... يَصْلَى بِهَا كُلُّ مَنْ عَادَاكَ نِيرَانَا
وَقَوْلُهُ: وَرابِطُوا أَمْرٌ لَهُمْ بِالْمُرَابَطَةِ، وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الرَّبْطِ، وَهُوَ رَبْطُ الْخَيل للحراسة فِي غَيْرِ الْجِهَادِ خَشْيَةَ أَنْ يَفْجَأَهُمُ الْعَدُوُّ، أَمَرَ اللَّهُ بِهِ الْمُسْلِمِينَ لِيَكُونُوا دَائِمًا عَلَى حَذَرٍ مِنْ عَدُوِّهِمْ تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى مَا يَكِيدُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ مُفَاجَأَتِهِمْ عَلَى غِرَّةٍ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ كَمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي وَقْعَةِ الْأَحْزَابِ فَلَمَّا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالْجِهَادِ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَكُونُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَيْقَاظًا مِنْ عَدُوِّهِمْ. وَفِي كِتَابِ الْجِهَادِ مِنَ «الْبُخَارِيِّ» : بَابُ فَضْلِ رِبَاطِ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا إِلَخْ. وَكَانَتِ الْمُرَابَطَةُ مَعْرُوفَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَهِيَ رَبْطُ الْفَرَسِ لِلْحِرَاسَةِ فِي الثُّغُورِ أَيِ الْجِهَاتِ الَّتِي يَسْتَطِيعُ الْعَدُوُّ الْوُصُولَ مِنْهَا إِلَى الْحَيِّ مِثْلِ الشِّعَابِ بَيْنَ الْجِبَالِ. وَمَا رَأَيْتُ مَنْ وَصَفَ ذَلِكَ مِثْلَ لَبِيدٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ إِذْ قَالَ:
وَلَقَدْ حَمَيْتُ الْحَيَّ تَحْمِلُ شِكَّتِي ... فُرُطٌ وِشَاحِي إِذْ غَدَوْتُ لِجَامُهَا
فَعَلَوْتُ مُرْتَقَبًا عَلَى ذِي هَبْوَةٍ ... حَرِجٍ إِلَى إِعْلَامِهِنَّ قَتَامُهَا
حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِرٍ ... وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute