وَالْكَلَامُ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّحْقِيرِ لَهُمْ، وَقَرِيب مِنْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ [إِبْرَاهِيم: ٤٦] ، وَهُوَ طَرِيقَةٌ مَسْلُوكَةٌ وَكَثُرَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الشُّعَرَاءِ الْمُحْدَثِينَ، قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ اللَّبَّانَةِ الْأَنْدَلُسِيُّ فِي رِثَاءِ الْمُعْتَمِدِ بْنِ عَبَّادٍ مَلِكِ إِشْبِيلِيَّةَ:
تَبْكِي السَّمَاءُ بِمُزْنٍ رَائِحٍ غَادِ ... عَلَى الْبَهَالِيلِ مِنْ أَبْنَاءِ عَبَّادِ
وَالْمَعْنَى: فَمَا كَانَ هَلَاكُهُمْ إِلَّا كَهَلَاكِ غَيْرِهِمْ وَلَا أُنْظِرُوا بِتَأْخِيرِ هَلَاكِهِمْ بَلْ عُجِّلَ لَهُم الاستئصال.
[٣٠، ٣١]
[سُورَة الدُّخان (٤٤) : الْآيَات ٣٠ إِلَى ٣١]
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١)
مَعْطُوفٌ عَلَى الْكَلَامِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ [الدُّخان:
٢٤] الَّذِي تَقْدِيرُهُ: فَأَغْرَقْنَاهُمْ وَنَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [٦٤- ٦٦] وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ.
وَالْمَعْنَى: وَنَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَذَابِ فِرْعَوْنَ وَقَسَاوَتِهِ، أَيْ فَكَانَتْ آيَةُ الْبَحْرِ هَلَاكًا لِقَوْمٍ وَإِنْجَاءً لِآخَرِينَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُنْجِي الَّذِينَ آمنُوا بِمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَذَابِ أَهْلِ الشِّرْكِ بِمَكَّةَ، كَمَا نَجَّى الَّذِينَ اتَّبَعُوا مُوسَى مِنْ عَذَابِ فِرْعَوْنَ.
وَجُعِلَ طُغْيَانُ فِرْعَوْنَ وَإِسْرَافُهُ فِي الشَّرِّ مَثَلًا لِطُغْيَانِ أَبِي جَهْلٍ وَمَلَئِهِ وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْإِشَارَةِ أُكِّدَ الْخَبَرُ بِاللَّامِ. وَقَدْ يُفِيدُ تَحْقِيقَ إِنْجَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُقَدَّرِ لِلْمُشْرِكِينَ إِجَابَةً لِدَعْوَةِ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ [الدُّخان: ١٢] .
والْعَذابِ الْمُهِينِ: هُوَ مَا كَانَ يُعَامِلُهُمْ بِهِ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ من الاستعباد والإشفاق عَلَيْهِمْ فِي السُّخْرَةِ، وَكَانَ يُكَلِّفُهُمْ أَنْ يَصْنَعُوا لَهُ اللَّبِنَ كُلَّ يَوْمٍ لِبِنَاءِ مَدِينَتَيِ فَيْثُومَ ورعمسيس وَكَانَ اللَّبِنُ يُصْنَعُ مِنَ الطُّوبِ وَالتِّبْنِ فَكَانَ يُكَلِّفُهُمُ اسْتِحْضَارَ التِّبْنِ اللَّازِمِ لِصُنْعِ اللَّبِنِ وَيَلْتَقِطُونَ مُتَنَاثِرَهُ وَيُذِلُّونَهُمْ وَلَا يَتْرُكُونَ لَهُمْ رَاحَةً، فَذَلِكَ الْعَذَابُ الْمُهِينُ لِأَنَّهُ عَذَابٌ فِيهِ إِذْلَالٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute