للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَضَلَّهُمْ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَسَاءَ حَالَهُمْ، وَسُوءُ الْحَالِ أَمْرٌ مُجْمَلٌ يَفْتَقِرُ إِلَى الْبَيَانِ، فَيَكُونُ فَصْلُ الْجُمْلَةِ فَصْلُ الِاسْتِئْنَافِ.

وَإِنْ جَعَلْتَ مَعْنَى وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ أَنَّهُ رَدَّهُمْ إِلَى الْكُفْرِ، كَانَتْ جملَة أَتُرِيدُونَ اسْتِئْنَاف ابْتِدَائِيًّا، وَوَجْهُ الْفَصْلِ أَنَّهُ إِقْبَالٌ عَلَى اللَّوْمِ وَالْإِنْكَارِ، بَعْدَ جُمْلَةِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ الَّتِي هِيَ خَبَرِيَّةٌ، فَالْفَصْلُ لِكَمَالِ الِانْقِطَاعِ لاخْتِلَاف الغرضين.

[٨٩]

[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٨٩]

وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩)

الْأَظْهَرُ أَنَّ ضَمِيرَ «وَدُّوا» عَائِدٌ إِلَى الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِ: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النِّسَاء: ٨٨] . فَضَحَ اللَّهُ هَذَا الْفَرِيقَ فَأَعْلَمَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ مُضْمِرُونَ الْكُفْرَ، وَأَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ رَدَّ مَنْ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْكُفْرِ.

وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِ الْمُهَاجَرَةِ لَا يُنَاسِبُ إِلَّا مَا تَقَدَّمَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَا

يُنَاسِبُ مَا فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الْمُهَاجَرَةِ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَاللَّهُ نَهَى الْمُسْلِمِينَ عَنْ وِلَايَتِهِمْ إِلَى أَنْ يَخْرُجُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي غَزْوَةٍ تَقَعُ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ لِأَنَّ غَزْوَةَ أُحُدٍ، الَّتِي انْخَزَلَ عَنْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ، قَدْ مَضَتْ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ.

وَمَا أَبْلَغَ التَّعْبِيرَ فِي جَانِبِ مُحَاوَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِرَادَةِ فِي قَوْلِهِ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ [النِّسَاء: ٨٨] ، وَفِي جَانِبِ مُحَاوَلَةِ الْمُنَافِقِينَ بِالْوُدِّ، لِأَنَّ الْإِرَادَةَ يَنْشَأُ عَنْهَا الْفِعْلُ، فَالْمُؤْمِنُونَ يَسْتَقْرِبُونَ حُصُولَ الْإِيمَانِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ قَرِيبٌ مِنْ فِطْرَةِ النَّاسِ، وَالْمُنَافِقُونَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَرْتَدُّونَ عَنْ دِينِهِمْ، وَيَرَوْنَ مِنْهُمْ مَحَبَّتَهُمْ إِيَّاهُ، فَلَمْ يَكُنْ طَلَبُهُمْ تَكْفِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا تَمَنِّيًا، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْوُدِّ الْمُجَرَّدِ.