وَعَنِ الضَّحَّاكِ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ بِمَكَّةَ وَلَمْ يُهَاجِرُوا، وَكَانُوا يُظَاهِرُونَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ [النِّسَاء: ٩٧] الْآيَةَ. وَأَحْسَبُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْفِرَقَ كُلَّهُمْ كَانُوا مَعْرُوفِينَ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ، فَكَانُوا مَثَلًا لِعُمُومِهَا وَهِيَ عَامَّةٌ فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ مِنْ كُلِّ مَنْ عُرِفَ بِالنِّفَاقِ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمِنْ أَهْلِ مَكَّةَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ فَاتَ وَقْتُ قِتَالِهِمْ، لِقَصْدِ عَدَمِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ وَقْتَ خُرُوجِهِمْ اسْتِدْرَاجًا لَهُمْ إِلَى يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ.
وَعَلَى جَمِيعِ الِاحْتِمَالَاتِ فَمَوْقِعُ الْمَلَامِ هُوَ الْخَطَأُ فِي الِاجْتِهَادِ لِضَعْفِ دَلِيلِ الْمُخْطِئِينَ لِأَنَّ دَلَائِلَ كُفْرِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ كَانَتْ تَرْجُحُ عَلَى دَلِيلِ إِسْلَامِهِمُ الَّذِي هُوَ مُجَرَّدُ النُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ، مَعَ التَّجَرُّدِ عَنْ إِظْهَارِ مُوَالَاةِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إِذَا اسْتَنَدَ إِلَى دَلِيلٍ ضَعِيفٍ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ الْعَالِمُ لَا يَكُونُ بَعِيدًا عَنِ
الْمَلَامِ- فِي الدُّنْيَا- عَلَى أَنْ أَخْطَأَ فِيمَا لَا يخطىء أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مِثْلِهِ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا حَالِيَّةٌ، أَيْ إِنْ كُنْتُمُ اخْتَلَفْتُمْ فِيهِمْ فَاللَّهُ قَدْ رَدَّهُمْ إِلَى حَالِهِمُ السُّوأَى، لِأَنَّ مَعْنَى أَرْكَسَ رَدَّ إِلَى الرِّكْسِ، وَالرِّكْسُ قَرِيبٌ مِنَ الرِّجْسِ.
وَفِي حَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي الرَّوْثِ «إِنَّ هَذَا رِكْسٌ»
وَقِيلَ: مَعْنَى أَرْكَسَ نَكَّسَ، أَيْ رَدَّ رَدًّا شَنِيعًا، وَهُوَ مُقَارِبٌ لِلْأَوَّلِ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ رَدَّهُمْ إِلَى الْكُفْرِ جَزَاءً لِسُوءِ اعْتِقَادِهِمْ وَقِلَّةِ إِخْلَاصِهِمْ مَعَ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ تَتَوَالَدُ مِنْ جِنْسِهَا، فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَأْتِي بِزِيَادَةِ الصَّالِحَات، وَالْعَمَل السيّء يَأْتِي بِمُنْتَهَى الْمَعَاصِي، وَلِهَذَا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ الْإِخْبَارُ عَنْ كَوْنِ الْعَمَلِ سَبَبًا فِي بُلُوغِ الْغَايَاتِ مِنْ جِنْسِهِ.
وَقَوْلُهُ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَشَأَ عَنِ اللَّوْمِ وَالتَّعْجِيبِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ، لِأَنَّ السَّامِعِينَ يَتَرَقَّبُونَ بَيَانَ وَجْهِ اللوم، ويتساءلون عمّا ذَا يَتَّخِذُونَ نَحْوَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ. وَقَدْ دَلَّ الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ الْمَشُوبُ بِاللَّوْمِ عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ هِيَ مَحَلُّ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ، وَتَقْدِيرُهَا: إِنَّهُمْ قَدْ أَضَلَّهُمُ اللَّهُ، أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute