وَقَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ مِثْلَ قَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَذَكَرَ هُنَا يَتَّقُونَ لِأَنَّهُمْ إِذَا تَذَكَّرُوا يُسِّرَتْ عَلَيْهِمُ التَّقْوَى، وَلِأَنَّ التَّذَكُّرَ أَنْسَبُ بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ لِأَنَّ فِي الْأَمْثَالِ عِبْرَةً بِأَحْوَالِ الْمُمَثَّلِ بِهِ فَهِيَ مُفْضِيَةٌ إِلَى التَّذَكُّرِ، وَالِاتِّقَاءِ أَنْسَبُ بِانْتِفَاءِ الْعِوَجِ لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَقَامَتْ مَعَانِيهِ وَاتَّضَحَتْ كَانَ الْعَمَلُ بِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ أَيْسَرَ وَذَلِكَ هُوَ التَّقْوَى.
[٢٩]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٢٩]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٢٩)
اسْتِئْنَافٌ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّعَرُّضِ إِلَى الْمَقْصُودِ بَعْدَ الْمُقَدِّمَةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَلَقَدْ ضَرَبْنا
لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ
[الرّوم: ٥٨] تَوْطِئَةٌ لِهَذَا الْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ لِحَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَحَالِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، وَفِي هَذَا الِانْتِقَالِ تَخَلُّصٌ أُتْبِعَ تَذْكِيرُهُمْ بِمَا ضُرِبَ لَهُمْ فِي الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ عَلَى وَجْهِ إِجْمَالِ الْعُمُومِ اسْتِقْصَاءً فِي التَّذْكِيرِ وَمُعَاوَدَةً لِلْإِرْشَادِ، وَتَخَلُّصًا مَنْ وَصْفِ الْقُرْآنِ بِأَنَّ فِيهِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ، إِلَى تَمْثِيلِ حَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِحَالٍ خَاصٍّ.
فَهَذَا الْمَثَلُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ إِلَى قَوْلِهِ:
أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الزمر: ٢٢] ، فَهُوَ مَثَلٌ لِحَالِ مَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُمْ لِلْإِسْلَامِ وَحَالِ مَنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ.
وَمَجِيءُ فِعْلِ ضَرَبَ اللَّهُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي مَعَ أَنَّ ضَرْبَ هَذَا الْمَثَلِ مَا حَصَلَ إِلَّا فِي زَمَنِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لِتَقْرِيبِ زَمَنِ الْحَالِ مِنْ زَمَنِ الْمَاضِي لِقَصْدِ التَّشْوِيقِ إِلَى عِلْمِ هَذَا الْمَثَلِ فَيُجْعَلُ كَالْإِخْبَارِ عَنْ أَمْرٍ حَصَلَ لِأَنَّ النُّفُوسَ أَرغب فِي علمه كَقَوْلِ الْمُثَوِّبِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ. وَفِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً فِي سُورَةِ النَّحْلِ [١١٢] .
أَمَّا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فَجَعَلَ فِعْلَ ضَرَبَ مُسْتَعْمِلًا فِي مَعْنَى الْأَمْرِ إِذْ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا وَقُلْ لَهُمْ مَا تَقُولُونَ فِي رَجُلٍ مِنَ الْمَمَالِيكِ قَدِ اشْتَرَكَ فِيهِ شُرَكَاءُ، إِلَى آخَرِ كَلَامِهِ، فَكَانَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ الْخَبَرَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الطَّلَبِ، فَقَرَّرَهُ شَارِحُوهُ الطَّيِّبِيّ والقزويني والتفتازانيّ بِمَا حَاصِلُ مَجْمُوعِهِ: أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute