وَقَوْلُهُ: فِي إِبْراهِيمَ مَعْنَاهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ هُنَا دِينُهُ، فَهَذَا مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالذَّاتِ، وَالْمُرَادُ حَالٌ مِنْ أَحْوَالِ الذَّاتِ يَتَعَيَّنُ مِنَ الْمَقَامِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧٣] .
وَ (هَا) من قَوْله: هَا أَنْتُمْ تَنْبِيهٌ، وَأَصْلُ الْكَلَامِ أَنْتُمْ حَاجَجْتُمْ، وَإِنَّمَا يَجِيءُ مِثْلُ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي مَحل التَّعَجُّب والنكير وَالتَّنْبِيهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ يُؤَكَّدُ غَالِبًا بِاسْمِ إِشَارَةٍ بعده فَيُقَال هَا أَنا ذَا، وَهَا أَنْتُم أُولَاءِ أَوْ هَؤُلَاءِ.
وحاجَجْتُمْ خَبَرُ أَنْتُمْ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ جُمْلَةَ حَاجَجْتُمْ حَالًا هِيَ مَحَلُّ التَّعْجِيبِ بِاعْتِبَارِ مَا عُطِفَ عَلَيْهَا مِنْ قَوْلِهِ: فَلِمَ تُحَاجُّونَ: لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِيهِ إِنْكَارِيٌّ، فَمَعْنَاهُ:
فَلَا تُحَاجُّونَ.
وَسَيَأْتِي بَيَانُ مِثْلِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ [آل عمرَان: ١١٩] .
وَقَوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ تَكْمِيلٌ لِلْحُجَّةِ أَيْ أَنَّ الْقُرْآن الَّذِي هومن عِنْدِ اللَّهِ أَثْبَتَ أَنَّهُ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنْتُمْ لَمْ تَهْتَدُوا لِذَلِكَ لِأَنَّكُمْ لَا تَعْلَمُونَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَة [١٤٠] : أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ.
[٦٧]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٦٧]
مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧)
نَتِيجَةٌ لِلِاسْتِدْلَالِ إِذْ قَدْ تَحَصْحَصَ مِنَ الْحُجَّةِ الْمَاضِيَةِ أَنَّ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ غَيْرُ الْحَنِيفِيَّةِ، وَأَنَّ مُوسَى وَعِيسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، لَمْ يُخْبِرَا بِأَنَّهُمَا عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ، فَأَنْتَجَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ عَلَى حَالِ الْيَهُودِيَّةِ أَوِ النَّصْرَانِيَّةِ إِذْ لَمْ يُؤْثَرْ ذَلِكَ عَنْ مُوسَى وَلَا عِيسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَهَذَا سَنَدُهُ خُلُوُّ كُتُبِهِمْ عَنِ ادِّعَاءِ ذَلِكَ. وَكَيْفَ تَكُونُ الْيَهُودِيَّةُ أَوِ النَّصْرَانِيَّةُ مِنَ الْحَنِيفِيَّةِ مَعَ خلوّها عَن فَرِيضَةِ الْحَجِّ، وَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ بِذِكْرِ فَرْضِهِ لِمَنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: ١٣٦] عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ قَالَ أَهْلُ الْمِلَلِ: «قَدْ أَسْلَمْنَا قَبْلَكَ، وَنَحْنُ الْمُسْلِمُونَ» فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: فَحُجَّهُمْ يَا مُحَمَّدُ وَأَنْزَلَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute