وَقَدْ أَعْرَضَ فِي هَذَا الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ عَنْ إِبْطَالِ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ الزِّيَادَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ، وَبَيْنَ وَصْفِ الْإِسْلَامِ بِأَنَّهُ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ: لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ صِحَّةِ النَّظَرِ مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ زِيَادَةِ الْفُرُوعِ، وَاتِّحَادِ الْأُصُولِ، وَأَنَّ مُسَاوَاةَ الدِّينَيْنِ مَنْظُورٌ فِيهَا إِلَى اتِّحَادِ أُصُولِهِمَا سَنُبَيِّنُهَا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمرَان: ٢٠] وَعِنْدَ قَوْلِهِ: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا فَاكْتُفِيَ فِي الْمُحَاجَّةِ بِإِبْطَالِ مُسْتَنَدِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: «فَقَدْ زِدْتَ فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَنْعِ، ثُمَّ بِقَوْلِهِ: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً [آل عمرَان: ٦٧] عَلَى طَرِيقَةِ الدَّعْوَى بِنَاءً عَلَى أَنَّ انْقِطَاعَ الْمُعْتَرِضِ كَافٍ فِي اتِّجَاهِ دَعْوَى الْمُسْتَدلّ.
وَقَوله: هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٨٥] .
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: هَا أَنْتُمْ بِإِثْبَاتِ أَلْفِ هَا وَبِتَخْفِيفِ هَمْزَةِ أَنْتُمْ، وَقَرَأَهُ قَالُونُ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ: بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ وَتَسْهِيلِ هَمْزَةِ أَنْتُمْ، وَقَرَأَهُ وَرْشٌ بِحَذْفِ أَلِفِ هَا وَبِتَسْهِيلِ هَمْزَةِ أَنْتُمْ وَبِإِبْدَالِهَا أَلِفًا أَيْضًا مَعَ الْمَدِّ، وَقَرَأَهُ قُنْبُلٌ بِتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ دُونَ أَلِفٍ.
وَوَقَعَتْ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةُ بَعْدَ لَامِ التَّعْلِيلِ فَيَكُونُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ هُوَ سَبَبَ الْمُحَاجَّةِ فَمَا صَدَّقَ (مَا) عِلَّةٌ مِنَ الْعِلَلِ مَجْهُولَةٌ أَي سَبَب للمحاجّة مَجْهُولٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعْلَمَ لِأَنَّهُ لَا وُجُودَ لَهُ، فَلَا يُعْلَمُ، فَالِاسْتِفْهَامُ عَنْهُ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِهِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ الإنكاري، وَلَيْسَ عَيْنَيْهِ.
وَحُذِفَتْ أَلِفُ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ عَلَى مَا هُوَ الِاسْتِعْمَالُ فِيهَا إِذَا وَقَعَتْ مَجْرُورَةً بِحَرْفٍ نَحْوَ عَمَّ يَتَساءَلُونَ [النبأ: ١] وَقَوْلِ ابْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ:
عَلَامَ تَقُولُ الرُّمْحُ يُثْقِلُ عَاتِقِي وَالْأَلِفَاتُ الَّتِي تُكْتَبُ فِي حُرُوفِ الْجَرِّ عَلَى صُورَةِ الْيَاءِ. إِذَا جُرَّ بِوَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْحُرُوفِ (مَا) هَذِهِ يَكْتُبُونَ الْأَلِفَاتِ عَلَى صُورَةِ الْأَلِفِ: لِأَنَّ مَا صَارَتْ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ فَأَشْبَهَتْ جُزْءَ الْكَلِمَةِ فَصَارَتِ الْأَلِفَاتُ كَالَّتِي فِي أَوَاسِطِ الْكَلِمَاتِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute