للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَاضْطَرَّهُمْ إِلَى شِدَّةِ التَّوْكِيدِ بِالْقَسَمِ مَا رَأَوْا مِنْ تَصْمِيمِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ. وَيُسَمَّى هَذَا الْمِقْدَارُ مِنَ التَّأْكِيدِ ضَرْبًا إِنْكَارِيًّا.

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ فَذَلِكَ وَعْظٌ وَعَظُوا بِهِ الْقَوْمَ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَا مَنْفَعَةَ تَنْجَرُّ لَهُمْ مِنْ إِيمَانِ الْقَوْمِ وَإِعْلَانٌ لَهُمْ بِالتَّبَرُّؤِ مِنْ عُهْدَةِ بَقَاءِ الْقَوْمِ عَلَى الشِّرْكِ وَذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُثِيرَ النَّظَرَ الْفِكْرِيَّ فِي نُفُوسِ الْقَوْمِ.

والْبَلاغُ اسْمُ مَصْدَرٍ مِنْ أَبْلَغَ إِذَا أَوْصَلَ خَبَرًا، قَالَ تَعَالَى: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى: ٤٨] وَقَالَ: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ [إِبْرَاهِيم: ٥٢] . وَلَا يُسْتَعْمَلُ الْبَلَاغُ فِي إِيصَالِ الذَّوَاتِ. وَالْفُقَهَاءُ يَقُولُونَ فِي كَرَاءِ السُّفُنِ وَالرَّوَاحِلِ: إِنَّ مِنْهُ مَا هُوَ عَلَى الْبَلَاغِ. يُرِيدُونَ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى مَكَانٍ مُعَيَّنٍ بَيْنَ الْمَكْرِي وَالْمُكْتَرِي.

والْمُبِينُ وَصْفٌ لِلْبَلَاغِ، أَيِ الْبَلَاغِ الْوَاضِحِ دَلَالَةً وَهُوَ الَّذِي لَا إِيهَامَ فِيهِ وَلَا مواربة.

[١٨]

[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ١٨]

قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨)

لَمَّا غَلَبَتْهُمُ الْحُجَّةُ من كل جَانب وَبَلَغَ قَوْلُ الرُّسُلِ وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [يس: ١٧] مِنْ نُفُوسِ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ مَبَلَغَ الْخَجَلِ وَالِاسْتِكَانَةِ مِنْ إِخْفَاقِ الْحُجَّةِ وَالِاتِّسَامِ بِمِيسَمِ الْمُكَابَرَةِ وَالْمُنَابَذَةِ لِلَّذِينَ يَبْتَغُونَ نَفْعَهُمُ انْصَرَفُوا إِلَى سَتْرِ خَجَلِهِمْ وَانْفِحَامِهِمْ بِتَلْفِيفِ السَّبَبِ لِرَفْضِ دَعْوَتِهِمْ بِمَا حَسِبُوهُ مُقْنِعًا لِلرُّسُلِ بِتَرْكِ دَعْوَتِهِمْ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ يَدَّعُونَهُ شَيْءٌ خَفِيٌّ لَا قِبَلَ لِغَيْرِ مُخْتَرِعِهِ بِالْمُنَازَعَةِ فِيهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ تَطَيَّرُوا بِهِمْ وَلَحِقَهُمْ مِنْهُم شُؤْم، وَلَا بُد لِلْمَغْلُوبِ مِنْ بَارِدِ الْعُذْرِ.

وَالتَّطَيُّرُ فِي الْأَصْلِ: تَكَلُّفُ مُعْرِفَةِ دَلَالَةِ الطَّيْرِ عَلَى خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ مِنْ تَعَرُّضِ نَوْعِ الطَّيْرِ وَمِنْ صِفَةِ انْدِفَاعِهِ أَوْ مَجِيئِهِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى كُلِّ حَدَثٍ يَتَوَهَّمُ مِنْهُ أَحَدٌ أَنَّهُ كَانَ سَبَبًا فِي لَحَاقِ شَرٍّ بِهِ فَصَارَ مُرَادِفًا لِلتَّشَاؤُمِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيرَةَ وَإِنَّمَا الطِّيرَةُ عَلَى مَنْ تَطَيَّرَ»

وَبِهَذَا الْمَعْنَى أُطْلِقَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَيْ قَالُوا: إِنَّا تَشَاءَمْنَا بِكُمْ.