وَقُلْتُمْ كَاهِنٌ وقلتم مَجْنُون، وو الله مَا هُوَ بأولئكم. وَإِذَا كَانَ لَا يَكْذِبُ عَلَى النَّاسِ فَكَيْفَ يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ، كَمَا قَالَ هِرَقْلُ لِأَبِي سُفْيَانَ وَقَدْ سَأَلَهُ:
هَلْ جَرَّبْتُمْ عَلَيْهِ كَذِبًا قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَا. قَالَ: فَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَتْرُكَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ.
وَمِنْ أَجْلِ هَذَا التَّدَرُّجِ الَّذِي طُوِيَ تَحْتَ جُمْلَةِ مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِحَصْرِ أمره فِي النذرات بِقُرْبِ عَذَابٍ وَاقِعٍ، أَيْ فِي النِّذَارَةِ وَالرِّسَالَةِ الصَّادِقَةِ.
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : أَيْ مِثْلُ هَذِهِ الدَّعْوَى لَا يَتَصَدَّى لَهَا إِلَّا رَجُلَانِ: إِمَّا مَجْنُونٌ لَا يُبَالِي بِافْتِضَاحِهِ إِذَا طُولِبَ بِالْبُرْهَانِ، وَإِمَّا عَاقِلٌ رَاجِحُ الْعَقْلِ لَا يَدَّعِي مِثْلَهُ إِلَّا بَعْدَ صِحَّتِهِ بِالْحُجَّةِ، وَإِلَّا فَمَا يُجْدِي الْعَاقِلُ دَعْوَى شَيْءٍ لَا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بِهِ مِنْ جِنَّةٍ بَلْ عَلِمْتُمُوهُ أَرْجَحَ قُرَيْشٍ عَقْلًا وَأَرْزَنَهُمْ حِلْمًا وَأَثْقَبَهُمْ ذِهْنًا وَآصَلَهُمْ رَأْيًا وَأَصْدَقَهُمْ قَوْلًا وَأَجْمَعَهُمْ لِمَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فَكَانَ مَظِنَّةً لِأَنْ تَظُنُّوا بِهِ الْخَيْرَ وَتُرَجِّحُوا فِيهِ جَانِبَ الصِّدْقِ عَلَى الْكَذِبِ» اهـ.
فَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ قَصْرُ مَوْصُوفٍ عَلَى صِفَةٍ قَصْرًا إِضَافِيًّا، أَيْ هُوَ مَقْصُورٌ عَلَى صِفَةِ النِّذَارَةِ لَا تَحُومُ حَوْلَهُ الْأَوْصَافُ الَّتِي لَمَزْتُمُوهُ بِهَا.
وَمَعْنَى بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ الْقُرْبُ، أَيْ قُرْبَ الْحُصُولِ فَيَقْتَضِي الْقَبْلِيَّةَ، أَيْ قَبْلَ عَذَابٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَالْمُرَادُ عَذَاب الْآخِرَة.
[٤٧]
[سُورَة سبإ (٣٤) : آيَة ٤٧]
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧)
هَذَا اسْتِقْصَاءٌ لِبَقَايَا شُبَهِ التَّكْذِيبِ لِدَحْضِهَا سَوَاءً مِنْهَا مَا تَعَلَّقُوا بِهِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِمْ:
كَاهِنٌ وَشَاعِرٌ وَمَجْنُونٌ وَمَا لَمْ يَدَّعُوهُ وَلَكِنَّهُ قَدْ يَخْطُرُ بِبَالِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَزْعُمُوا أَنَّهُ يُرِيد بِهَذِهِ الدعْوَة نَفْعًا لِنَفْسِهِ يَكُونُ أَجْرًا لَهُ عَلَى التَّعْلِيمِ وَالْإِرْشَادِ.
وَهُمْ لَمَّا ادَّعَوْا أَنَّهُ سَاحِرٌ أَوْ أَنَّهُ شَاعِرٌ أَوْ أَنَّهُ كَاهِنٌ لَزِمَ مِنْ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ يَتَعَرَّضُ