للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٢١]

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١)

اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ انْتُقِلَ بِهِ إِلَى غَرَضِ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَمَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنْ هُدَى الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الْغَرَضُ الَّذِي ابْتُدِئَتْ بِهِ السُّورَةُ وَانْثَنَى الْكَلَامُ مِنْهُ إِلَى الِاسْتِطْرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [الزمر: ٢] إِلَى هُنَا، فَهَذَا تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ إِلَى قَوْلِهِ: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ [الزمر: ٢٢، ٢٣] فَمُثِّلَتْ حَالَةُ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ وَاهْتِدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَالْوَعْدِ بِنَمَاءِ ذَلِكَ الِاهْتِدَاءِ، بِحَالَةِ إِنْزَالِ الْمَطَرِ وَنَبَاتِ الزَّرْعِ بِهِ وَاكْتِمَالِهِ. وَهَذَا التَّمْثِيلُ قَابِلٌ لِتَجْزِئَةِ أَجْزَائِهِ عَلَى أَجْزَاءِ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا:

فَإِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ تَشْبِيهٌ لِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ لِإِحْيَاءِ الْقُلُوبِ، وَإِسْلَاكُ الْمَاءِ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ تَشْبِيهٌ لِتَبْلِيغِ الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ، وَإِخْرَاجُ الزَّرْعِ الْمُخْتَلِفِ الْأَلْوَانِ تَشْبِيهٌ لِحَالِ اخْتِلَافِ النَّاسِ مِنْ طَيِّبٍ وَغَيْرِهِ، وَنَافِعٍ وَضَارٍّ، وَهِيَاجُ الزَّرْعِ تَشْبِيهٌ لِتَكَاثُرِ الْمُؤْمِنِينَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً فَهُوَ إِدْمَاجٌ لِلتَّذْكِيرِ بِحَالَةِ الْمَمَاتِ وَاسْتِوَاءِ النَّاسِ فِيهَا مِنْ نَافِعٍ وَضَارٍّ. وَفِي تَعْقِيبِ هَذَا بِقَوْلِهِ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ إِلَى قَوْلِهِ:

وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الزمر: ٢٢، ٢٣] إِشَارَةٌ إِلَى الْعِبْرَةِ مِنْ هَذَا التَّمْثِيلِ.

وَقَرِيبٌ مِنْ تَمْثِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا

فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعلم كَمثل الْغَيْث الْكثير أصَاب أَرضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ

فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسقوا وزرعوا، وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ الله ونفعه مَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ»

. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَصَالَةً وَإِدْمَاجًا عَلَى عَكْسِ مَا بَيَّنَّا، فَيَكُونُ عُودًا إِلَى