وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ أَصْلٍ مِنْ أَصُولِ الْفِقْهِ- وَهُوَ مِنْ أَصُولِ الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ- يُلَقَّبُ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ وَهِيَ الْوَسَائِلُ الَّتِي يُتَوَسَّلُ بِهَا إِلَى أَمْرٍ مَحْظُورٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْمَعُوا أُرِيدَ بِهِ سَمَاعٌ خَاصٌّ وَهُوَ الْوَعْيُ وَمَزِيدُ التَّلَقِّي حَتَّى لَا يَحْتَاجُوا إِلَى طَلَبِ الْمُرَاعَاةِ أَوِ النَّظَرِ وَقِيلَ: أَرَادَ مِنِ (اسْمَعُوا) امْتَثِلُوا لِأَوَامِرِ الرَّسُولِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهُوَ أَظْهَرُ.
وَقَوْلُهُ: وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ التَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ. وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ الْيَهُودُ خَاصَّةً أَيْ تَأَدَّبُوا أَنْتُمْ مَعَ الرَّسُولِ وَلَا تَتَأَسَّوْا بِالْيَهُودِ فِي أَقْوَالِهِمْ: فَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْكَافِرِينَ دُونَ الْيَهُودِ زِيَادَةٌ فِي ذَمِّهِمْ. وَلَيْسَ هُنَا مِنَ التَّذْيِيلِ لِأَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا يَصْلُحُ مَا بَعْدَهُ مِنْ تَعْمِيمِ حُكْمِ الْكَافِرِينَ لِتَذْيِيلِ مَا قبله.
[١٠٥]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ١٠٥]
مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥)
فَصَلَهُ عَمَّا قَبْلَهُ لِاخْتِلَافِ الْغَرَضَيْنِ، لِأَنَّ الْآيَةَ قَبْلَهُ فِي تَأْدِيبِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ التَّعْرِيضِ بِالْيَهُودِ وَهَذِهِ الْآيَةُ لِبَيَانِ حَسَدِ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ. وَوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ ظَاهِرٌ لِاتِّحَادِ الْمَآلِ وَلِأَنَّ الدَّاعِيَ لِلسَّبِّ وَالْأَذَى هُوَ الْحَسَدُ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ رُجُوعٌ إِلَى كَشْفِ السَّبَبِ الَّذِي دَعَا لِامْتِنَاعِ الْيَهُودِ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَقَالُوا: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا [الْبَقَرَة: ٩١] أَيْ لَيْسَ الصَّارِفُ لَهُمْ تَمَسَّكُهُمْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ بَلْ هُوَ الْحَسَدُ عَلَى مَا أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيءِ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ خَيْرٍ، فَبَيَّنَ أَدِلَّةَ نَفْيِ كَوْنِ الصَّارِفِ لَهُمْ هُوَ التَّصَلُّبُ وَالتَّمَسُّكُ بِدِينِهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ٩١] وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ وَنَشَأَ عَنْهُ مِنَ الْمُجَادَلَاتِ وَبَيَانِ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ أَوَامِرِ دِينِهِمْ وَاتِّبَاعِهِمُ السِّحْرَ وَبَيَّنَ الْآنَ حَقِيقَة الصَّارِف عَن الْإِيمَان بِالْقُرْآنِ وَالْمُوجَبَ لِلشَّتْمِ وَقَوْلِ الْبُهْتَانِ لِيَتَخَلَّصَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى بَيَان النّسخ.
و (الود) بِضَمِّ الْوَاوِ الْمَحَبَّةُ وَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا تَمَنَّاهُ فَلَيْسَ الْوُدُّ هُوَ خُصُوصَ التَّمَنِّي وَلَا الْمَحَبَّةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute