للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْفَرْقَانُ مَصْدَرٌ بِوَزْنِ فُعْلَانُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْفَرْقِ وَهُوَ الْفَصْلُ اسْتُعِيرَ لِتَمْيِيزِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ فَهُوَ وَصْفٌ لُغَوِيٌّ لِلتَّفْرِقَةِ فَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى كِتَابِ الشَّرِيعَةِ وَعَلَى الْمُعْجِزَةِ وَعَلَى نَصْرِ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ وَعَلَى الْحُجَّةِ الْقَائِمَةِ عَلَى الْحَقِّ وَعَلَى ذَلِكَ جَاءَتْ آيَاتُ تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ [الْفرْقَان: ١] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ [الْأَنْبِيَاء: ٤٨] فَلَعَلَّهُ أَرَادَ الْمُعْجِزَاتِ لِأَنَّ هَارُونَ لَمْ يُؤْتَ وَحْيًا وَقَالَ: يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ [الْأَنْفَال: ٤١] يَعْنِي يَوْمَ النَّصْرِ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَالَ: وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ [آل عمرَان: ٤] عَطْفًا عَلَى نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [آل عمرَان: ٣] الْآيَةَ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا الْمُعْجِزَةُ أَوِ الْحُجَّةُ لِئَلَّا يَلْزَمَ عَطْفُ الصِّفَةِ عَلَى مَوْصُوفِهَا إِنْ أُرِيدَ بِالْفُرْقَانِ الْكِتَابُ الْفَارِقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالصِّفَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَتْبَعَ مَوْصُوفَهَا بِالْعَطْفِ وَمِنْ نَظَرِ ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:

إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ... وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي المزدحم

فقد سَهَا لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَطْفِ بَعْضِ الصِّفَاتِ عَلَى بَعْضٍ لَا مِنْ عَطْفِ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانَ.

وَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ هُوَ مَحَلُّ الْمِنَّةِ لِأَنَّ إِتْيَانَ الشَّرِيعَةِ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِاهْتِدَائِهِمْ وَكَانَ قَاصِرًا عَلَى عَمَلِ مُوسَى بِهِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نِعْمَةٌ عَلَيْهِمْ. وَالْقَوْلُ فِي لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَالْقَوْلِ فِي لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الْبَقَرَة: ٥٢] السَّابِق.

[٥٤]

[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٥٤]

وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤)

هَذِهِ نِعْمَةٌ أُخْرَى وَهِيَ نِعْمَةُ نَسْخِ تَكْلِيفٍ شَدِيدٍ عَلَيْهِمْ كَانَ قَدْ جُعِلَ جَابِرًا لِمَا اقْتَرَفُوهُ مِنْ إِثْمِ عِبَادَةِ الْوَثَنِ فَحَصَلَ الْعَفْوُ عَنْهُمْ بِدُونِ ذَلِكَ التَّكْلِيفِ فَتَمَّتِ الْمِنَّةُ وَبِهَذَا صَحَّ جَعْلُ هَذِهِ مِنَّةً مُسْتَقِلَّةً بعد الْمِنَّة المتضمنة لَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ [الْبَقَرَة:

٥٢] لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالذَّنْبِ فِي الْآخِرَةِ قَدْ يَحْصُلُ مَعَ الْعُقُوبَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ حَدٍّ وَنَحْوِهِ وَهُوَ حِينَئِذٍ مِنَّةٌ إِذْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَ لِلذَّنْبِ عِقَابَيْنِ دُنْيَوِيٌّ وَأُخْرَوِيٌّ كَمَا كَانَ الْمُذْنِبُ النَّفْسَ وَالْبَدَنَ وَلَكِنَّ اللَّهَ بِرَحْمَتِهُُِ