للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

جَعَلَ الْحُدُودَ جَوَابِرَ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، فَلَمَّا عَفَا اللَّهُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ فَقَدْ تَفَضَّلَ بِإِسْقَاطِ الْعُقُوبَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَثَرُ الذَّنْبِ، وَلَمَّا نَسَخَ تَكْلِيفَهُمْ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ فَقَدْ تَفَضَّلَ بِذَلِكَ فَصَارَتْ مِنَّتَانِ.

فَقَوْلُ مُوسَى لِقَوْمِهِ: إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ تَشْرِيعُ حُكْمٍ لَا يَكُونُ مِثْلُهُ إِلَّا عَنْ وَحْيٍ لَا عَنِ اجْتِهَادٍ- وَإِنْ جَازَ الِاجْتِهَادُ لِلْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ هَذَا حُكْمٌ مُخَالِفٌ لِقَاعِدَةِ حِفْظِ النُّفُوسِ الَّتِي قِيلَ قَدِ اتَّفَقَ عَلَيْهَا شَرَائِعُ اللَّهِ- فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَلَّفَهُمْ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ قَتْلًا حَقِيقَةً إِمَّا بِأَنْ يَقْتُلَ كُلٌّ مَنْ عَبَدَ الْعِجْلَ نَفْسَهُ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْأَنْفُسِ الْأَرْوَاحَ الَّتِي فِي الْأَجْسَامِ فَالْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ وَاحِدٌ عَلَى هَذَا وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا بِالِاعْتِبَارِ كَقَوْلِهِ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَقَوْلِ ابْنِ أُذَيْنَةَ:

وَإِذَا وَجَدْتَ لَهَا وساوس سلوءه ... شَفَعَ الْفُؤَادُ إِلَى الضَّمِيرِ فَسَلَّهَا

وَإِمَّا بِأَنْ يَقْتُلَ مَنْ لَمْ يَعْبُدُوا الْعِجْلَ عَابِدِيهِ، وَكَلَامُ التَّوْرَاةِ فِي هَذَا الْغَرَضِ فِي غَايَةِ الْإِبْهَامِ وَظَاهِرُهُ أَنَّ مُوسَى أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَأْمُرَ اللَّاوِيِّينَ- الَّذِينَ هُمْ مِنْ سِبْطِ لَاوِي الَّذِي مِنْهُ مُوسَى وَهَارُونُ- أَنْ يَقْتُلُوا مَنْ عَبَدَ الْعِجْلَ بِالسَّيْفِ وَأَنَّهُمْ فَعَلُوا وَقَتَلُوا ثَلَاثَةَ آلَافِ نَفْسٍ ثُمَّ اسْتَشْفَعَ لَهُمْ مُوسَى فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُمْ أَيْ فَيَكُونُ حُكْمُ قَتْلِ أَنْفُسِهِمْ مَنْسُوخًا بَعْدَ الْعَمَلِ بِهِ وَيَكُونُ الْمَعْنَى فَلْيَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَالْأَنْفُسُ مُرَادٌ بِهَا الْأَشْخَاصُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النُّور: ٦١] أَيْ فَلْيُسَلِّمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ وَقَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ [الْبَقَرَة: ٨٤] أَيْ لَا يَسْفِكُ بَعْضُكُمْ دِمَاءَ بَعْضٍ وَقَوْلِهِ

عَقِبَهُ: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَة: ٨٥] فَالْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ مُتَغَايِرَانِ.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ الْأَمْرَ بِقَتْلِ النَّفْسِ هُنَا عَلَى مَعْنَى الْقَتْلِ الْمجَازِي وَهُوَ التذليل وَالْقَهْرُ عَلَى نَحْوِ قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: «فِي أَعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ» وَقَوْلِهِ: خَمْرٌ مُقَتَّلَةٌ أَوْ مَقْتُولَةٌ، أَيْ مُذَلَّلَةٌ سُورَتُهَا بِالْمَاءِ. قَالَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرٍ:

إِنَّ الَّتِي نَاوَلْتَنِي فَرَدَدْتُهَا ... قُتِلَتْ قُتِلَتْ فَهَاتِهَا لَمْ تُقْتَلِ (١)

وَفِيهِ بُعْدٌ عَنِ اللَّفْظِ بَلْ مُخَالَفَةٌ لِغَرَضِ الِامْتِنَانِ، لِأَنَّ تَذْلِيلَ النَّفْسِ وَقَهْرَهَا شَرِيعَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ.


(١) وَمن معنى الْقَتْل فِي التذليل جَاءَ معنى مجازي آخر وَهُوَ إِطْلَاق الْقَتْل على إتقان الْعَمَل لِأَن فِي الإتقان تذليلا للمصنوع من ذَلِك قَوْلهم قتل اللِّسَان علما، وفرى الدَّهْر خبْرَة وَقَوله تَعَالَى: وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً [النِّسَاء: ١٥٧] على وَجه.