وَالظُّلْمُ هُنَا الْجِنَايَةُ وَالْمَعْصِيَةُ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: ١٣] .
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَتُوبُوا فَاءُ التَّسَبُّبِ لِأَنَّ الظُّلْمَ سَبَبٌ فِي الْأَمْرِ بِالتَّوْبَةِ فالفاء لتفريع الْأَمْرِ عَلَى الْخَبَرِ وَلَيْسَت هُنَا عاطفة عِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ إِذْ لَيْسَ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ تَرَتُّبٌ فِي الْوُجُودِ، وَمِنَ النُّحَاةِ مَنْ لَا يَرَى الْفَاءَ تَخْرُجُ عَنِ الْعَطْفِ وَهُوَ الْجَارِي عَلَى عِبَارَاتِ الْجُمْهُورِ مِثْلَ صَاحِبِ «مُغْنِي اللَّبِيبِ» فَيَجْعَلُ ذَلِكَ عَطْفَ إِنْشَاءٍ عَلَى خَبَرٍ وَلَا ضَيْرَ فِي ذَلِكَ.
وَذِكْرُ التَّوْبَةِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ [الْبَقَرَة:
٣٧] .
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ قَتْلَهُمْ أَنْفُسَهُمْ بَيَانٌ لِلتَّوْبَةِ الْمَشْرُوعَةِ لَهُ فَتَكُونُ الْفَاءُ لِلتَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ وَهُوَ عَطْفُ مُفَصَّلٍ عَلَى مُجْمَلٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النِّسَاء: ١٥٣] كَمَا فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ لَا التَّعْقِيبَ. وَأَمَّا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فَقَدَ جَوَّزَ فِيهِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا تَأْوِيلُ الْفِعْلِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِالْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ فَيَكُونُ مَا بَعْدَهُ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ وَمُعَقِّبًا وَهَذَا الْوَجْهُ لَمْ يَذْكُرْهُ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا، وَثَانِيهِمَا جَعْلُ التَّوْبَةِ الْمَطْلُوبَةِ شَامِلَةً لِأَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ آخِرُهَا قَتْلُهُمْ أَنْفُسَهُمْ فَتَكُونُ
الْفَاءُ لِلتَّرْتِيبِ وَالتَّعْقِيبِ أَيْضًا.
وَعِنْدِي أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ مُنَزَّلَةً مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأَوْلَى وَكَانَتِ الْأَوْلَى مَعْطُوفَةً بِالْفَاءِ كَانَ الْأَصْلُ فِي الثَّانِيَةِ أَنْ تُقْطَعَ عَنِ الْعِطْفِ فَإِذَا قُرِنَتْ بِالْفَاءِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَانَتِ الْفَاءُ الثَّانِيَةُ مُؤَكِّدَةً لِلْأُولَى، وَلَعَلَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَحْسُنُ فِي كُلِّ جُمْلَتَيْنِ تَكُونُ أُولَاهُمَا فِعْلًا غَيْرَ مَحْسُوسٍ وَتَكُونُ الثَّانِيَةُ فعلا محسوسا مُبين لِلْفِعْلِ الْأَوَّلِ فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ حَاصِلِ عَقِبِهِ فَيُقْرَنُ بِالْفَاءِ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ تَمَامُهُ إِلَّا بَعْدَ تَقْرِيرِ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ فِي النَّفْسِ وَلِذَلِكَ قَرَّبَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِتَأْوِيلِ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ بِالْعَزْمِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ.
وَالْبَارِئُ هُوَ الْخَالِقُ الْخَلْقَ عَلَى تَنَاسُبٍ وَتَعْدِيلٍ فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْخَالِقِ وَلِذَلِكَ أَتْبَعَ بِهِ الْخَالِقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ [الْحَشْر: ٢٤] .
وَتَعْبِيرُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي كَلَامِهِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى لَفْظِ الْبَارِئِ فِي الْعَرَبِيَّةِ تَحْرِيضٌ عَلَى التَّوْبَةِ لِأَنَّهَا رُجُوعٌ عَنِ الْمَعْصِيَةِ فَفِيهَا مَعْنَى الشُّكْرِ وَكَوْنُ الْخَلْقِ عَلَى مِثَالٍ مُتَنَاسِبٍ يَزِيدُ تَحْرِيضًا عَلَى شُكْرِ الْخَالِقِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute