وَإِنَّمَا جُعِلَتِ الْبَرَاءَةُ شَأْنًا من شؤون اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأُسْنِدَ الْعَهْدُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ:
لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْعُهُودَ الَّتِي عَقَدَهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَازِمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ مَا عَقَدُوهُ
بِأَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّ عُهُودَ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا كَانَتْ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، فِي وَقْتِ عَدَمِ اسْتِجْمَاعِ قُوَّتِهِمْ، وَأَزْمَانَ كَانَتْ بَقِيَّةُ قُوَّةٍ لِلْمُشْرِكِينَ، وَإِلَّا فَإِنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ مَا كَانُوا يَسْتَحِقُّونَ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ تَوْسِعَةً وَلَا عَهْدًا لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الدِّينِ تَكُونُ أَقْوَمَ إِذَا شَدَّدَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَعْدَائِهِ، فَالْآنَ لَمَّا كَانَتْ مَصْلَحَةُ الدِّينِ مُتَمَحِّضَةً فِي نَبْذِ الْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدَهُ الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ أَذِنَ اللَّهُ رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ ذَلِكَ الْعَهْدِ، فَلَا تَبِعَةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي نَبْذِهِ، وَإِنْ كَانَ الْعَهْدُ قَدْ عَقَدَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ تَوْسِعَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، عَلَى نَحْو مَا جزى مِنَ الْمُحَاوَرَةِ بَيْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَبَيْنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَعَلَى نَحْوِ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ثَبَاتِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِاثْنَيْنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، عَلَى أَنَّ فِي الْكَلَامِ احْتِبَاكًا، لِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَعْمَلُونَ عَمَلًا إِلَّا عَنْ أَمْرٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَصَارَ الْكَلَامُ فِي قُوَّةِ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمِنْكُمْ، إِلَى الَّذين عَاهَدَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَعَاهَدْتُمْ. فَالْقَبَائِلُ الَّتِي كَانَ لَهَا عَهْدٌ مَعَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ قَدْ جَمَعَهَا كُلَّهَا الْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ: إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فَالتَّعْرِيفُ بِالْمَوْصُولِيَّةِ هُنَا، لِأَنَّهَا أَخْصَرُ طَرِيقٍ لِلتَّعْبِيرِ عَنِ الْمَقْصُودِ، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْبَرَاءَةَ بَرَاءَةٌ مِنَ الْعَهْدِ، ثُمَّ بَيَّنَ بَعْضَهَا بِقَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً [التَّوْبَة: ٤] الْآيَة.
[٢]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٢]
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢)
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.
الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى مَعْنَى الْبَرَاءَةِ، لِأَنَّهَا لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِالْأَذَانِ بِهَا كَانَتْ إِعْلَامًا لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ هُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ نَقْضِ الْعَهْدِ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي فِعْلِ الْأَمْرِ مَعْلُومٌ مِنْهُ أَنَّهُمُ الْمُوَجَّهُ إِلَيْهِمُ الْكَلَامُ وَذَلِكَ الْتِفَاتٌ. فَالتَّقْدِيرُ:
فَلْيَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ وَنُكْتَةُ هَذَا الِالْتِفَاتِ إِبْلَاغُ الْإِنْذَارِ إِلَيْهِمْ مُبَاشَرَةً.
وَيَجُوزُ تَقْدِيرُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ مُفَرَّعٍ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنْ عُهُودِهِمْ، أَيْ فَقُلْ لَهُمْ: سِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute