مَعَ عَلَى تَقْدِيرِ جَعْلِ اسْمِ الْإِشَارَةِ الثَّانِي تَكْرِيرًا لِلْأَوَّلِ أَخْذًا مِنْ كَلَامِ «الْكَشَّافِ»
الَّذِي احْتَفَلَ بِهِ الطَّيِّبِيُّ فَأَطَالَ فِي تَقْرِيرِهِ وَتَفْنِينِ تَوْجِيهِهِ فَإِنَّ فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ مَا يَنْبُو عَنْهُ نَظْمُ الْقُرْآنِ. وَكَانَ الَّذِي دَعَا إِلَى فَرْضِ هَذَا الْوَجْهِ هُوَ خلو الْكَلَام عَن عَاطِفٍ يَعْطِفُ بِما عَصَوْا عَلَى بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ إِذَا كَانَتِ الْإِشَارَةُ لِمُجَرَّدِ التَّكْرِيرِ. وَلَقَدْ نَبَّهْنَاكَ آنِفًا إِلَى دَفْعِ هَذَا بِأَنَّ التَّكْرِيرَ يُغْنِي غناء الْعَطف.
[٦٢]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٦٢]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢)
تَوَسَّطَتْ هَاتِهِ الْآيَةُ بَيْنَ آيَاتِ ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَبِمَا قَابَلُوا بِهِ تِلْكَ النِّعَمَ مِنَ الْكُفْرَانِ وَقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ فَجَاءَتْ مُعْتَرِضَةً بَيْنَهَا لِمُنَاسَبَةٍ يُدْرِكُهَا كُلُّ بَلِيغٍ وَهِيَ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حِكَايَةِ سُوءِ مُقَابَلَتِهِمْ لِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ جَرَّتْ عَلَيْهِمْ ضَرْبَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَرُجُوعَهُمْ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَلَمَّا كَانَ الْإِنْحَاءُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُفْزِعَهُمْ إِلَى طَلَبِ الْخَلَاصِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَتْرُكِ اللَّهُ تَعَالَى عَادَتَهُ مَعَ خَلْقِهِ مِنَ الرَّحْمَةِ بِهِمْ وَإِرَادَتِهِ صَلَاحَ حَالِهِمْ فَبَيَّنَ لَهُمْ فِي هَاتِهِ الْآيَةِ أَنَّ بَابَ اللَّهِ مَفْتُوحٌ لَهُم وَأَن اللجأ إِلَيْهِ أَمْرٌ هَيِّنٌ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ بِأَنْ يُؤْمِنُوا وَيَعْمَلُوا الصَّالِحَاتِ، وَمِنْ بَدِيعِ الْبَلَاغَةِ أَنْ قَرَنَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ ذِكْرَ بَقِيَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَأْنِيسًا لِوَحْشَةِ الْيَهُودِ مِنَ الْقَوَارِعِ السَّابِقَةِ فِي الْآيَاتِ الْمَاضِيَةِ وَإِنْصَافًا لِلصَّالِحِينَ مِنْهُمْ، وَاعْتِرَافًا بِفَضْلِهِمْ، وَتَبْشِيرًا لِصَالِحِي الْأُمَمِ مِنَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا مِثْلَ الَّذين مثل كَانُوا قَبْلَ عِيسَى وَامْتَثَلُوا لِأَنْبِيَائِهِمْ، وَمِثْلَ الْحَوَارِيِّينَ، وَالْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ نُزُولِ الْآيَةِ مِثْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَصُهَيْبٍ، فَقَدْ وَفَّتِ الْآيَةُ حَقَّ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ التَّرْغِيبِ وَالْبِشَارَةِ، وَرَاعَتِ الْمُنَاسَبَتَيْنِ لِلْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ مُنَاسَبَةَ اقْتِرَانِ التَّرْغِيبِ بِالتَّرْهِيبِ، وَمُنَاسَبَةَ ذِكْرِ الضِّدِّ بَعْدَ الْكَلَامِ عَلَى ضِدِّهِ.
فَمَجِيءُ (إِنَّ) هُنَا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَتَحْقِيقِهِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّ مَا سَبَقَ مِنَ الْمَذَمَّاتِ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْيَهُودِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَتَوَهَّمُ أَنَّ سَلَفَ الْأُمَمِ الَّتِي ضَلَّتْ كَانُوا مِثْلَهُمْ فِي الضَّلَالِ، وَلَقَدْ عَجِبَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ لَمَّا ذَكَرْتُ لَهُمْ أَنِّي حِينَ حَلَلْتُ فِي رُومَةَ تَبَرَّكْتُ بِزِيَارَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute