للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْأَزْوَاجِ هُنَا اكْتِفَاءً لِدَلَالَةِ فِتْنَةِ الْأَوْلَادِ عَلَيْهِنَّ بِدَلَالَةِ فَحْوَى الْخِطَابِ، فَإِنَّ فِتْنَتَهُنَّ أَشَدُّ مِنْ فِتْنَةِ الْأَوْلَادِ لِأَنَّ جُرْأَتَهُنَّ عَلَى التَّسْوِيلِ لِأَزْوَاجِهِنَّ مَا يُحَاوِلْنَهُ مِنْهُمْ أَشَدُّ مِنْ جُرْأَةِ الْأَوْلَادِ.

وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَاد من نَّما

قَصْرُ مَوْصُوفٍ عَلَى صِفَةٍ، أَيْ لَيْسَتْ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ إِلَّا فِتْنَةً. وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ فِي كَثْرَةِ مُلَازَمَةِ هَذِهِ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ إِذْ يَنْدُرُ أَنْ تَخْلُوَ أَفْرَادُ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ، وَهُمَا أَمْوَالُ الْمُسْلِمِينَ وَأَوْلَادُهُمْ عَنِ الِاتِّصَافِ بِالْفِتْنَةِ لِمَنْ يَتَلَبَّسُ بهما.

والإخبار بتْنَةٌ

لِلْمُبَالَغَةِ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ سَبَبُ فِتْنَةٍ سَوَاءً سَعَوْا فِي فِعْلِ الْفَتْنِ أَمْ

لَمْ يَسْعَوْا. فَإِنَّ الشُّغْلَ بِالْمَالِ وَالْعِنَايَةَ بِالْأَوْلَادِ فِيهِ فِتْنَةٌ.

فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ عِلْمِ الْمَعَانِي التَّذْيِيلُ وَالْإِدْمَاجُ، وَكِلَاهُمَا مِنَ الْإِطْنَابِ، وَالِاكْتِفَاءُ وَهُوَ مِنَ الْإِيجَازِ، وَفِيهَا الْإِخْبَار بِالْمَصْدَرِ وهوتْنَةٌ

، والإخبار بِهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ، وَفِيهَا الْقَصْرُ، وَفِيهَا التَّعْلِيلُ، وَهُوَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ الْفَصْلِ، وَقَدْ يُعَدُّ مِنْ مُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِ أَيْضًا فَتِلْكَ سِتُّ خُصُوصِيَّاتٍ.

وَفُصِلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّهَا اشْتَمَلَتْ عَلَى التَّذْيِيلِ وَالتَّعْلِيلِ وَكِلَاهُمَا مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْفَصْلِ.

وَالْفِتْنَةُ: اضْطِرَابُ النَّفْسِ وَحِيرَتُهَا مِنْ جَرَّاءِ أَحْوَالٍ لَا تُلَائِمُ مَنْ عَرَضَتْ لَهُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٩١] .

أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: «إِنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَتَّى جَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ يَعْثُرَانِ وَيَقُومَانِ فَنَزَلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمِنْبَرِ فَأَخَذَهُمَا وجذبهما ثمَّ قرأنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ

. وَقَالَ: رَأَيْتُ هَذَيْنِ فَلَمْ أَصْبِرْ، ثُمَّ أَخَذَ فِي خُطْبَتِهِ»

. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِحُذَيْفَةَ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ فَقَالَ: أَصْبَحْتُ أُحِبُّ الْفِتْنَةَ وَأَكْرَهُ الْحَقَّ. فَقَالَ عُمَرُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: أُحِبُّ وَلَدِي وَأَكْرَهُ الْمَوْتَ.

وَقَوْلُهُ: اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ

لِأَن قَوْله: نْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ

كِنَايَةٌ عَنِ الْجَزَاءِ عَنْ تِلْكَ الْفِتْنَةِ لِمَنْ يُصَابِرُ نَفْسَهُ عَلَى مُرَاجَعَةِ مَا تُسَوِّلُهُ مِنَ الِانْحِرَافِ عَنْ مَرْضَاةِ اللَّهِ إِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ تَسْوِيلٌ. وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ عَلَى إِعْطَاءِ حَقِّ الْمَالِ وَالرَّأْفَةِ بِالْأَوْلَادِ، أَيْ وَاللَّهُ يَؤْجُرُكُمْ عَلَيْهَا.

لقَوْل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنِ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ وكنّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ» .

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «إِنَّ الصَّبْرَ عَلَى سُوءِ خُلُقِ الزَّوْجَةِ عِبَادَةٌ»

. وَالْأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى مِنْهَا مَا رَوَاهُ حُذَيْفَةُ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاة وَالصَّدَََقَة.

[١٦]

[سُورَة التغابن (٦٤) : آيَة ١٦]

فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦)

فَاءٌ فَصِيحَةٌ وَتَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، أَيْ إِذَا عَلِمْتُمْ هَذَا فَاتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا يَجِبُ مِنَ التَّقْوَى