للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لِلتَّمَنِّي أَوْ هُوَ مَا لَوْ نَطَقَ بِهِ الْعَرَبِيُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَنَطَقَ بِالتَّمَنِّي عَلَى نَحْوِ مَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الْبَقَرَة: ٢١] وَنَحْوِهِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ قَوْلُهُ لَمَثُوبَةٌ مُسْتَأْنِفًا وَاللَّامُ لِلْقَسَمِ.

وَالْمَثُوبَةُ اسْمُ مَصْدَرِ أَثَابَ إِذَا أَعْطَى الثَّوَابَ وَالثَّوَابُ الْجَزَاءُ الَّذِي يُعْطَى لِخَيْرِ الْمُعْطِي، وَيُقَالُ ثَوَبَ وَأَثْوَبَ بِمَعْنَى أَثَابَ فَالْمَثُوبَةُ عَلَى وَزْنِ الْمُفْعُولَةِ كَالْمَصْدُوقَةِ وَالْمَشُورَةِ

وَالْمَكْرُوهَةِ.

وَقَوْلُهُ: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ شَرْطٌ ثَانٍ مَحْذُوفُ الْجَوَابِ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَعْلَمُونَ لدلَالَة المثوبة مِنَ اللَّهِ خَيْرٌ، أَيْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ مَثُوبَةَ اللَّهِ لَمَا اشْتَرَوُا السِّحْرَ.

وَلَيْسَ تَكْرِيرُ اللَّفْظَةِ أَوِ الْجُمْلَةِ فِي فَوَاصِلِ الْقُرْآنِ بِإِيطَاءٍ لِأَنَّ الْإِيطَاءَ إِنَّمَا يُعَابُ فِي الشِّعْرِ دُونَ النَّثْرِ لِأَنَّ النَّثْرَ إِنَّمَا يَعْتَدُّ فِيهِ بِمُطَابَقَةِ مُقْتَضَى الْحَالِ وَفَائِدَةُ هَذَا التَّكْرِيرِ التَّسْجِيلُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا هُوَ النَّفْع الْحق.

[١٠٤]

[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ١٠٤]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤)

يَتَعَيَّنُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ (١) تَطَلُّبُ سَبَبِ نُزُولِهَا لِيَظْهَرَ مَوْقِعُهَا وَوَجْهُ مَعْنَاهَا، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ أَنْ يَقُولَ الْمُؤْمِنُونَ كَلِمَةَ لَا ذَمَّ فِيهَا وَلَا سَخَفَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِسَبَبٍ، وَقَدْ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا إِذَا أَلْقَى عَلَيْهِمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّرِيعَةَ وَالْقُرْآنَ يَتَطَلَّبُونَ مِنْهُ الْإِعَادَةَ وَالتَّأَنِّيَ فِي إِلْقَائِهِ حَتَّى يَفْهَمُوهُ وَيَعُوهُ فَكَانُوا يَقُولُونَ لَهُ رَاعِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْ لَا تَتَحَرَّجْ مِنَّا وَارْفُقْ وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ مِنَ الْيَهُودِ يَشْتُمُونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَلَوَاتِهِمْ سِرًّا وَكَانَتْ لَهُمْ كَلِمَةً بِالْعِبْرَانِيَّةِ تُشْبِهُ كَلِمَةَ رَاعِنَا بِالْعَرَبِيَّةِ وَمَعْنَاهَا فِي الْعِبْرَانِيَّةِ سَبٌّ، وَقِيلَ مَعْنَاهَا لَا سَمِعْتَ، دُعَاءً فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: كُنَّا نَسُبُّ مُحَمَّدًا سِرًّا فَأَعْلِنُوا بِهِ الْآنَ أَوْ قَالُوا هَذَا وَأَرَادُوا بِهِ اسْمَ فَاعِلٍ مِنْ رَعَنَ إِذَا اتَّصَفَ بِالرُّعُونَةِ وَسَيَأْتِي، فَكَانُوا يَقُولُونَ هَاتِهِ الْكَلِمَةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ نَاوِينَ بِهَا السَّبَّ فَكَشَفَهُمُ اللَّهُ وَأَبْطَلَ عَمَلَهُمْ بِنَهْيِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ قَوْلِ هَاتِهِ الْكَلِمَةِ حَتَّى يَنْتَهِيَ الْمُنَافِقُونَ عَنْهَا وَيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَ نَبِيَّهُ عَلَى سِرِّهِمْ.


(١) أَي مثلهَا من الْآيَات الَّتِي نزلت فِي أَحْوَال مُعينَة وَلم يشْرَح فِي أَثْنَائِهَا مَا يفصح عَن سَبَب نُزُولهَا إيجازا واستغناء بِعلم المخاطبين بهَا يَوْم نُزُولهَا بِالسَّبَبِ الَّذِي أوجب نُزُولهَا، فَإِذا لم ينْقل السَّبَب لمن لم يحضرهُ لم يعلم المُرَاد مِنْهَا.