[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : الْآيَات ٣٨ إِلَى ٣٩]
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩)
كُرِّرَتْ جُمْلَةُ قُلْنَا اهْبِطُوا فَاحْتَمَلَ تَكْرِيرُهَا أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ رَبْطِ النَّظْمِ فِي الْآيَةِ الْقُرْآنِيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ دَالَّةً عَلَى تَكْرِيرِ مَعْنَاهَا فِي الْكَلَامِ الَّذِي خُوطِبَ بِهِ آدَمُ فَيَكُونُ هَذَا التَّكْرِيرُ لِمُجَرَّدِ اتِّصَالِ مَا تَعَلَّقَ بِمَدْلُولِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا [الْبَقَرَة: ٣٦] وَذَلِكَ قَوْلُهُ: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الْبَقَرَة: ٣٦] وَقَوْلُهُ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً. إِذْ قَدْ فَصَلَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمُتَعَلِّقَيْنِ مَا اعْتَرَضَ بَيْنَهُمَا مِنْ قَوْلِهِ: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [الْبَقَرَة: ٣٧] فَإِنَّهُ لَوْ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً لَمْ يَرْتَبِطْ كَمَالَ الِارْتِبَاطِ وَلَتَوَهَّمَ السَّامِعُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي التَّفَنُّنِ فَلِدَفْعِ ذَلِكَ أُعِيدَ قَوْلُهُ: قُلْنَا اهْبِطُوا فَهُوَ قَوْلٌ وَاحِدٌ كُرِّرَ مَرَّتَيْنِ لِرَبْطِ الْكَلَامِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْطِفُ قُلْنَا لِأَنَّ بَيْنَهُمَا شِبْهَ كَمَالِ الِاتِّصَالِ لِتَنَزُّلِ قَوْلِهِ: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً مِنْ قَوْلِهِ: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ مَنْزِلَةَ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ ثُمَّ بُنِيَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً الْآيَةَ وَهُوَ مُغَايِرٌ لِمَا بُنِيَ عَلَى قَوْلِهِ: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ لِيَحْصُلَ شَيْءٌ مِنْ تَجَدُّدِ فَائِدَةٍ فِي الْكَلَامِ لِكَيْ لَا يَكُونَ إِعَادَةُ اهْبِطُوا مُجَرَّدَ تَوْكِيدٍ وَيُسَمَّى هَذَا الْأُسْلُوبُ فِي عِلْمِ الْبَدِيعِ بِالتَّرْدِيدِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ [آل عمرَان: ١٨٨] وَإِفَادَتُهُ التَّأْكِيدَ حَاصِلَةٌ بِمُجَرَّدِ إِعَادَةِ اللَّفْظِ (١) .
وَقِيلَ هُوَ أَمر ثَانِي بِالْهُبُوطِ بِأَنْ أُهْبِطَ آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ ثُمَّ أُهْبِطَ مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا إِلَى الْأَرْضِ فَتَكُونُ إِعَادَةُ قُلْنَا اهْبِطُوا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى اخْتِلَافِ زَمَنِ الْقَوْلَيْنِ وَالْهُبُوطِ وَهُوَ تَأْوِيلٌ يُفِيدُ أَنَّ الْمَرَاحِلَ وَالْمَسَافَاتِ لَا عِبْرَةَ بِهَا عِنْدَ الْمُسَافِرِ وَلِأَنَّ ضَمِيرَ مِنْها الْمُتَعَيَّنَ لِلْعَوْدِ إِلَى الْجنَّة لتنسق الضَّمَائِرِ فِي قَوْلِهِ: وَكُلا مِنْها رَغَداً [الْبَقَرَة:
٣٥]
(١) أردْت بِهَذَا أَن أنبه على أَن مَا وَقع فِي «الْكَشَّاف» أَن اهبطوا الثَّانِي تَأْكِيد أَرَادَ بِهِ مَا يُقَارب التَّأْكِيد وَهُوَ أَنه يحصل من مُجَرّد إِعَادَة اللَّفْظ. تَقْرِير لمدلوله فِي الذِّهْن وَإِن لم يكن الْمَقْصُود من ذكره
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute