أُسْلُوبُ سُورَةِ غَافِرٍ
أُسْلُوبُهَا أُسْلُوبُ الْمُحَاجَّةِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِدْقِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِبْطَالِ ضَلَالَةِ الْمُكَذِّبِينَ وَضَرْبِ مَثَلِهِمْ بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ، وَتَرْهِيبِهِمْ مِنَ التَّمَادِي فِي ضَلَالِهِمْ وَتَرْغِيبِهِمْ فِي التَّبَصُّرِ لِيَهْتَدُوا. وَافْتُتِحَتْ بِالْحَرْفَيْنِ الْمُقَطَّعَيْنِ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ لِأَنَّ أَوَّلَ أَغْرَاضِهَا أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَفِي حَرْفَيِ الْهِجَاءِ رَمْزٌ إِلَى عَجْزِهِمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ بَعْدَ أَنْ تَحَدَّاهُمْ، لِذَلِكَ فَلَمْ يَفْعَلُوا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَفِي ذَلِكَ الِافْتِتَاحِ تَشْوِيقٌ إِلَى تَطَلُّعِ مَا يَأْتِي بَعْدَهُ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ.
وَكَانَ فِي الصِّفَاتِ الَّتِي أُجْرِيَتْ عَلَى اسْمِ مُنَزِّلِ الْقُرْآنِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْبَشَرِ لِأَنَّهُ كَلَامُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى تَيْسِيرِ إِقْلَاعِهِمْ عَنِ الْكُفْرِ، وَتَرْهِيبٌ مِنَ الْعِقَابِ عَلَى الْإِصْرَارِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ بَرَاعَةِ الِاسْتِهْلَالِ. ثُمَّ تَخَلَّصَ مِنَ الْإِيمَاءِ وَالرَّمْزِ إِلَى صَرِيحِ وَصْفِ ضَلَالِ الْمُعَانِدِينَ وَتَنْظِيرِهِمْ بِسَابِقِيهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي اسْتَأْصَلَهَا اللَّهُ.
وَخُصَّ بِالذِّكْرِ أَعْظَمُ الرُّسُلِ السَّالِفِينَ وَهُوَ مُوسَى مَعَ أُمَّةٍ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَهُمْ أَهْلُ مِصْرَ وَأُطِيلَ ذَلِكَ لِشِدَّةِ مُمَاثِلَةِ حَالِهِمْ لِحَالِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ فِي الِاعْتِزَازِ بِأَنْفُسِهِمْ، وَفِي قِلَّةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ مِثْلَ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ، وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ ثَبَاتُ مُوسَى وَثَبَاتُ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ إِيمَاءً إِلَى التَّنْظِيرِ بِثَبَاتِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَسِعَةِ الْقُدْرَةِ عَلَى إِعَادَةِ الْأَمْوَاتِ. وَخُتِمَتْ بِذِكْرِ أَهْلِ الضَّلَالِ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ الَّذِينَ أَوْبَقَهَمُ الْإِعْجَابُ بِرَأْيِهِمْ وَثِقَتُهُمْ بِجَهْلِهِمْ فَصُمَّتْ آذَانُهُمْ عَنْ سَمَاعِ حُجَجِ الْحَقِّ، وَأَعْمَاهُمْ عَنِ النَّظَرِ فِي دَلَائِلِ الْكَوْنِ فَحَسِبُوا أَنَّهُمْ عَلَى كَمَالٍ لَا يَنْقُصُهُمْ مَا بِهِ حَاجَةٌ إِلَى الْكَمَالِ، فَحَاقَ بِهِمُ الْعَذَابُ، وَفِي هَذَا رَدُّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ. وَخَوَّفَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الِانْزِلَاقِ فِي مَهْوَاةِ الْأَوَّلِينَ بِأَنَّ سُنَّةَ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ الْإِمْهَالُ ثُمَّ الْمُؤَاخَذَةُ، فَكَانَ ذَلِكَ كَلِمَةً جَامِعَةً لِلْغَرَضِ أَذِنَتْ بِانْتِهَاءِ الْكَلَامِ فَكَانَتْ مَحْسِنَ الْخِتَامِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute