وَقَوْلُهُ: قالَ أَسْلَمْتُ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ عَلَى طَرِيقَةِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: ٣٠] .
وَقَوْلُهُ: قالَ أَسْلَمْتُ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ بَادَرَ بِالْفَوْرِ دُونَ تَرَيُّثٍ كَمَا اقْتَضَاهُ وُقُوعُهُ جَوَابًا، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: إِنَّمَا قَالَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ دُونَ أَنْ يَقُولَ أَسْلَمْتُ لَكَ لِيَكُونَ قَدْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ وَبِدَلِيلِهِ اهـ. يَعْنِي أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ لِهَذَا الْعَالَمِ خَالِقًا عَالِمًا حَصَلَ لَهُ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ فَلَمَّا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بِالْإِيمَانِ صَادَفَ ذَلِكَ عقلا رشدا.
[١٣٢]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ١٣٢]
وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢)
لِمَا كَانَ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْحِكْمَةِ أَنْ يَكُونُوا حَرِيصِينَ عَلَى صَلَاحِ أَنْفُسِهِمْ وَصَلَاحِ أُمَّتِهِمْ كَانَ مِنْ مُكَمِّلَاتِ ذَلِكَ أَنْ يَحْرِصُوا عَلَى دَوَامِ الْحَقِّ فِي النَّاسِ مُتَّبَعًا مَشْهُورًا فَكَانَ مِنْ سُنَنِهِمُ التَّوْصِيَةُ لِمَنْ يَظُنُّونَهُمْ خَلَفًا عَنْهُمْ فِي النَّاسِ بِأَنْ لَا يَحِيدُوا عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَلَا يُفَرِّطُوا فِيمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْهُ، فَإِنَّ حُصُولَهُ بِمُجَاهَدَةِ نُفُوسٍ وَمُرُورِ أَزْمَانٍ فَكَانَ لِذَلِكَ أَمْرًا نَفِيسًا يَجْدُرُ أَنْ يَحْتَفِظَ بِهِ.
وَالْإِيصَاءُ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ يَتَعَلَّقُ بِصَلَاحِ الْمُخَاطَبِ خُصُوصًا أَوْ عُمُومًا، وَفِي فَوْتِهِ ضُرٌّ، فَالْوَصِيَّةُ أَبْلَغُ مِنْ مُطْلَقِ أَمْرٍ وَنَهْيٍ فَلَا تُطْلَقُ إِلَّا فِي حَيْثُ يَخَافُ الْفَوَاتَ إِمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُوصِي وَلِذَلِكَ كَثُرَ الْإِيصَاءُ عِنْدَ تَوَقُّعِ الْمَوْتِ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي [الْبَقَرَة: ١٣٣] ، وَفِي حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَوْعِظَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُودِعٍ فَأَوْصِنَا» الْحَدِيثَ، وَإِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُوصَى كَالْوَصِيَّةِ عِنْدَ
السَّفَرِ
فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْيَمَنِ: «كَانَ آخِرَ مَا أَوْصَانِي رَسُولُ اللَّهِ حِينَ وَضَعَتْ رِجْلِي فِي الْغَرْزِ أَنْ قَالَ حَسِّنْ خُلُقَكَ لِلنَّاسِ»
،
وَجَاءَ رجل إِلَى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ أَوْصِنِي قَالَ: «لَا تَغْضَبْ» .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute