[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ٣]
لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣)
حُوِّلَ الْخِطَابُ مِنْ تَوْجِيهِهِ إِلَى الْمُعَانِدِينَ إِلَى تَوْجِيهِهِ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابًا عَمَّا يُثِيرُهُ مَضْمُونُ قَوْلِهِ: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ [الشُّعَرَاء:
٢] مِنْ تَسَاؤُلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفْسِهِ عَنِ اسْتِمْرَارِ إِعْرَاضِ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْإِيمَانِ وَتَصْدِيقِ الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الْكَهْف: ٦] ، وَقَوْلُهُ: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر: ٨] .
وَ (لَعَلَّ) إِذَا جَاءَتْ فِي تَرَجِّي الشَّيْءِ الْمَخُوفِ سُمِّيَتْ إِشْفَاقًا وَتَوَقُّعًا. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ أَنَّ التَّرَجِّيَ مِنْ قَبِيلِ الْخَبَرِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِإِنْشَاءٍ مِثْلِ التَّمَنِّي.
وَالتَّرَجِّي مُسْتَعْمَلٌ فِي الطَّلَبِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ حَثٌّ عَلَى تَرْكِ الْأَسَفِ مِنْ ضَلَالِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ تَمْثِيلِ شَأْنِ الْمُتَكَلِّمِ الْحَاثِّ عَلَى الْإِقْلَاعِ بِحَالِ مَنْ يَسْتَقْرِبُ حُصُولَ هَلَاكِ الْمُخَاطَبِ إِذَا اسْتَمَرَّ عَلَى مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْغَمِّ.
وَالْبَاخِعُ: الْقَاتِلُ. وَحَقِيقَةُ الْبَخْعِ إِعْمَاقُ الذَّبْحِ. يُقَالُ: بَخَعَ الشَّاةَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
إِذَا بَلَغَ بِالسِّكِّينِ الْبِخَاعَ بِالْمُوَحَّدَةِ الْمَكْسُورَةِ وَهُوَ عِرْقٌ مُسْتَبْطِنٌ الْفَقَارَ، كَذَا قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» هُنَا وَذَكَرَهُ أَيْضًا فِي «الْفَائِقِ» . وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٦] . وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْمَوْتِ السَّرِيعِ، وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِ باخِعٌ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ. وَفِي باخِعٌ ضَمِيرُ الْمُخَاطَبِ هُوَ الْفَاعِلُ.
وأَلَّا يَكُونُوا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ بَعْدَ (أَنْ) وَالْخَافِضُ لَامُ التَّعْلِيلِ، وَالتَّقْدِيرُ: لِأَنْ لَا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، أَيْ لِانْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّ (أَنْ) تُخَلِّصُ الْمُضَارِعَ لِلِاسْتِقْبَالِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ غَمَّكَ مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ فِيمَا مَضَى يُوشِكُ أَنْ يُوقِعَكَ فِي الْهَلَاكِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِتَكَرُّرِ الْغَمِّ وَالْحُزْنِ، كَقَوْلِ إِخْوَةِ يُوسُفَ لِأَبِيهِمْ لَمَّا قَالَ يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ [يُوسُفَ: ٨٤] فَقَالُوا: تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ [يُوسُف: ٨٥] فَوِزَانُ هَذَا الْمَعْنَى وِزَانُ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٦] فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً، فَإِنَّ (إِنْ) الشَّرْطِيَّةَ تَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ أَلَّا يَكُونُوا فِي مَوْضِعِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute