مُرْضِيَانِ لِلَّهِ تَعَالَى إِذَا حَصَلَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَحْصُلِ الْآخَرُ. وَاللَّهُ يَأْمُرُنَا أَنْ نُقَدِّمَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ الْمُرْضِيَيْنِ لَهُ، وَهُوَ مَا فِيهِ تَعْظِيمُهُ بِطَلَبِ إِرْضَائِهِ، مَعَ نَفْعِ خَلْقِهِ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ، دُونَ الْأَمْرِ الَّذِي فِيهِ إِرْضَاؤُهُ بِتَعْظِيمِ اسْمِهِ فَقَطْ، إِذْ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ تَعْظِيمَ اسْمِهِ قَدْ حَصَلَ عِنْدَ تَحَرُّجِ الْحَالِفِ مِنَ الْحِنْثِ، فَبَرُّ الْيَمِينِ أَدَبٌ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْإِتْيَانُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَرْضَاةٌ لِلَّهِ فَأَمَرَ اللَّهُ بِتَقْدِيمِ مَرْضَاتِهِ عَلَى الْأَدَبِ مَعَ اسْمِهِ، كَمَا قِيلَ: الِامْتِثَالُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَدَبِ. وَقد
قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَفَعَلْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ»
، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمَّا أَقْسَمَ أَيُّوبُ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ مِائَةَ جِلْدَةٍ، أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَأْخُذَ ضِغْثًا مِنْ مِائَةِ عَصًا فَيَضْرِبَهَا بِهِ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مَقْصِدِ أَيُّوبَ وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَرْضَ اللَّهُ مِنْ أَيُّوبَ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَهُ بِالتَّحَلُّلِ مُحَافَظَةً عَلَى حِرْصِ أَيُّوبَ عَلَى الْبِرِّ فِي يَمِينِهِ، وَكَرَاهَتِهِ أَنْ يَتَخَلَّفَ مِنْهُ مُعْتَادُهُ فِي تَعْظِيمِ اسْمِ رَبِّهِ، فَهَذَا وَجْهٌ مِنَ التَّحِلَّةِ، أَفْتَى اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ. وَلَعَلَّ الْكَفَّارَةَ لَمْ تَكُنْ مَشْرُوعَةً فَهِيَ مِنْ يُسْرِ الْإِسْلَامِ وَسَمَاحَتِهِ، فَقَدْ كَفَانَا اللَّهُ ذَلِكَ إِذْ شَرَعَ لَنَا تَحِلَّةَ الْيَمِينِ بِالْكَفَّارَةِ وَلِذَلِكَ صَارَ لَا يُجْزِئُ فِي الْإِسْلَامِ أَنْ يَفْعَلَ الْحَالِفُ مِثْلَ مَا فعل أَيُّوب.
[٢٢٥]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢٢٥]
لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ الْآيَةَ السَّابِقَةَ لَمَّا أَفَادَتِ النَّهْيَ عَنِ التَّسَرُّعِ بِالْحَلِفِ إِفَادَةً صَرِيحَةً أَوِ الْتِزَامِيَّةً، كَانَتْ نُفُوسُ السَّامِعِينَ بِحَيْثُ يَهْجِسُ بِهَا التَّفَكُّرُ وَالتَّطَلُّعُ إِلَى حُكْمِ الْيَمِينِ الَّتِي تَجْرِي عَلَى الْأَلْسُنِ. وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ ظَاهِرَةٌ لَا سِيِّمَا إِنْ جَعَلْتَ قَوْلَهُ: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ [الْبَقَرَة: ٢٢٤] نَهْيًا عَنِ الْحَلِفِ.
وَالْمُؤَاخَذَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْأَخْذِ بِمَعْنَى الْعَدِّ وَالْمُحَاسَبَةِ، يُقَالُ أَخَذَهُ بِكَذَا أَيْ عَدَّهُ عَلَيْهِ
لِيُعَاتِبَهُ أَوْ يُعَاقِبَهُ، قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:
لَا تَأْخُذْنِي بِأَقْوَالِ الْوُشَاةِ وَلَمْ ... أُذْنِبْ وَإِنْ كَثُرَتْ فِيَّ الْأَقَاوِيلُ
فَالْمُفَاعَلَةُ هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْأَخْذِ إِذْ لَيْسَ فِيهِ حُصُولُ الْفِعْلِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute